من يروم دخول حمى المعرفة الربانية لا بد له من الخروج من رعونات نفسه والتطهر من كل دنس ؛ فإذا كان اللوح المحفوظ لا يمسه إلا المطهرون فأحرى وأولى بدخول المرء إلى الحمى الأقدس والمقام الأنفس .
لكن كيف يتطهر من الدنس والذنوب والمعاصي من هو بالظلم موصوف، وبالذنوب معروف ؟
فالمرء لا حول له ولا طول، والله جل جلاله جعل جزاء كل فعل من جنسه إلا فيما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولما يهفو قلب العبد ويهم إلى العلم بالله وينشد السبيل، فجزاء الله له أن يتقرب منه بأكثر مما تقرب العبد وسعى إليه.
وليس بين العبد وربه مسافة يقطعها، إذ الله أقرب إلينا من حبل الوريد، ومن رحم هذا الإشكال ما السبيل إلى العلم بالله ؟
عرض الإشكال :
تلك هي الغاية التي تسعى إليها هذه السلسلة ” في معرفة الله “، ولنا أن نبدأ أساسا بموضوع رؤية الله في الدنيا : فلقد سألها سيدنا موسى عليه السلام في قوله عز وجل {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ }[1] فمنعها، كما سألها قومه استكبارا وعتوا :
{فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ }[2]
وشهد سيدنا محمد بأنه رأى ربه, وأخذ هذه الشهادة جمع من الفقهاء فقالوا بأن الله اختصه بالرؤية كما اختص سيدنا إبراهيم بالخلة وسيدناموسى بالتكليم، ولم ينظروا نظرة بعين فاحصة ورؤية شاملة، بل تجاوزوا نصوصا تمنع رؤية الله بالأبصار في الدنيا، وقال آخرون برؤية الفؤاد، وعليها انصب كلام الربانيين من الصوفية الكرام، ودخل المتكلمون الموضوع فازداد الأمر إشكالا وتعقيدا.
ترى هل من نظرة ثاقبة، وبفكر شمولي جامع تطلعنا على حقيقة أمر الرؤية الربانية في الدنيا والآخرة ؟
بين العلم والمعرفة
لعلمائنا رحمهم الله جدل بين العلم والمعرفة في حق الله جل علاه، وليس موضوعنا فلسفيا ؛ لذا لا نلوي على أقوالهم, بل نعرض عنها إعراضا يربطنا ارتباطا مباشرا بالمصطلحات النبوية لنقول بالعلم بالله وفق ما جاء في الحديث النبوي :
[إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله [3]](الغرة: أهل الغفلة الذين ركنوا إلى الدنيا).
واتفق أهل العلوم على تسمية كل علم غير منضبط بضوابط علمية دقيقة ب “الفن “، ونسبوا للفن كل العلوم التي لم ترق لدرجة العلم مثل العلوم السياسية والاجتماعية إلخ.
وإن كانت العلوم السياسية عندنا لها الضوابط العلمية اليقينية منبثقة من سنن الله القرآنية ومن السنن الكونية.[4]
فالعلم بالله علم أكاد أجزم بأنه من اختصاص أهل الله : الصوفية الكرام، فلقد اعتنوا عناية تامة بجملة الأدب مع الله، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم, ومع المشايخ ومع العامة, وسيجوه بهالة من المصطلحات ليبقى حكرا على خاصة الخاصة كما يقولون. ولئن حمل الصوفية الكرام هذا العلم وصانوه عن تطاول المتطاولين وعن جدل المجادلين, وحملوه صافيا من الكدر فإنهم حملوا معه دخنا تجلى في استباحتهم نسبة الأسماء لله سبحانه وتعالى من غير قيد أو شرط, سواء من المجاز أو حقيقة اللفظ – والكمال الكلي لله جل شأنه-.
ولقد صانوا العلم بالله صيانة لا مثيل لها، وحصروا همومهم في هم واحد : هو طلب لذة النظر إلى وجه ربهم الأعلى، وكانوا حقا وصدقا أدق الناس فهما عن الله وعلما به.
والعلم بالله من أجل العلوم وأرفعها إطلاقا، ولقد حازوا فيه قدم السبق بما استمدوا من فتح ربهم وإمداده وفقا لوعوده سبحانه وتعالى :
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[5]
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[6]
وأشد ما ألومهم عليه هو نزولهم بهذا العلم من درجة علم اليقين إلى درجة الفنون الذوقية.
وفي ذلك يقول سيدي بومدين الغوث :
فقل للذي ينهى عن الوجد أهلـــــــــــــــه
إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا[7]
ويقول الإمام الحراق :
ولمـــــــــا أن رأت ذلي إلـيــــــــــــها
وحبي لم يـزد إلا انتشــــــــــــارا
وأحسب في هـــواها الذل عزا
وحقري في محــــبتها افتخارا
أباحت وصلــــها لكـــن إذا ما
غدونا من مدامتها سكارى
شربناها فــلــما أن تـــــــــــــجلت
نسينا من ملاحتها العقــــــــــارا
وكسرنا الكؤوس بها افتتانا
وهـــمنا في الـمـدير بلا مدارا[8]
إنه شتان بين من يستقي من المعين الصافي : كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبين من يستقي من روافد السواقي وبخاصة إن تبين تعكير مائها.
فالعلوم الشرعية بعامة علوم يقينية لا لبس فيها ولا غموض، فكيف بنا نجعلها فنونا ذوقية، وما الفنون الذوقية إلا معارف لم تبلغ مبلغ العلم لتستوي على سوقها. فهل أدرك رجال الصوفية عظم الزلل لنزولهم بالعلوم اليقينية إلى مستوى المعارف الظنية التي لا يحكمها إلا الذوق ؟
واستدعانا كتاب الله للعلم بالعلوم اليقينية لتنفتح لنا عين البصيرة ؛ فتتفتق لنا مغالق الفهم عن الحقائق اليقينية التي لا يشوبها لبس ولا تدخلها مصطلحات تعمي جوهرها. ومما لا شك فيه فإن أشرف العلوم اليقينية وأعلاها سناء وأمجدها رفعة :
العلم بالله.
[1] – الأعراف: من الآية143.
[2] – النساء: من الآية153.
[3]– كنز العمال للمتقي الهندي. المجلد العاشر، الباب الأول في الترغيب فيه، الحديث رقم :28942.
نقلا عن الديلمي عن أبي هريرة .ورواه الديلمي في مسنده، وأبو عبدالرحمن السلمي في الأربعين التي له في التصوف، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، الترغيب والترهيب للمنذري .(1/103)
[4] – انظر كتابنا ” شحذ الذمم ورفع الهمم بضوابط عوامل الصراع السياسي “.
[5] – العنكبوت : من الآية69.
[6] – البقرة : من الآية282.
[7] – ديوان قصائد وأناشيد السادة الصوفية, جمع وإعداد وترتيب أحمد حامدعبدالكريم الشريف العروسي الشاذلي. ص : 189.والبيت ضمن قصيدة مطلعها تضيق بنا الدنيا إذا غبتموا عنا وهي لسيدي أبي مدين الغوث مكتبة عالم الفكر- القاهرة, ط1- 1413هـ/1993م.
[8] – ديوان الحراق لسيدي محمد بن محمد الحراق الحسني ص : 28.