الضوابط الثلاث للفتوى‏

رأينا فيما سبق بأن أقسام القرآن ثلاث : آيات بينات ( آيات العهود الربانية + آيات الأحكام) ثم القصص القرآني ثم الأمثال والعظات.

◄ وجاءت السنن الإلهية أمورا كلية، جامعة مانعة، لا نقص فيها، وآياتها محكمات بينات لا لبس فيها ولا التباس يخامر الآخذ بها.

]يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ (النساء:26)

◄ونجد القصص الذي جاءنا في القرآن هو أحسنها فقط وهي بدورها تشكل وحدة متكاملة.

]وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[ (هود:120)

]نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [ (يوسف:3)

◄ وبخصوص الأمثال جاءت هي أيضا وحدة كلية جامعة مانعة لقوله تعالى :

]وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ [ (الفرقان:39)

]وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً[الاسراء89

]وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً[ (الكهف:54)

]وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ[ (الروم:58)

فهي في الحصيلة ثلاث كليات تعتمد ضوابط للفتوى : فبينما السنن الإلهية ترسم السبيل يأتي القصص القرآني ليؤكد المنحى، كما تأتي الأمثال لتشد على أزر السنن الإلهية.

ومن التنظير إلى التطبيق، حيث سنتناول مثالين :

أولهما : ما حكم الشرع في اختلاف الناس في رؤية الهلال وبخاصة في رمضان ؟

ثانيهما : ترى كيف تـتجلى مواقف المؤمن في واقعه السياسي؟ أينضم للمعارضة طوعا ؟ أم يصنف نفسه مع النخبة المؤيدة لسدة الحكم وبخاصة في الحكومات العلمانية ؟ أم ترى فارس الميدان يتأرجح تارة هنا وتارة هناك ؟ أم ينقاد للمجالس العلمية ويسلم تسليما لما هو مسطر لها ؟ أم يعتزل واقعه اعتزالا شعوريا ويهيئ برنامجه بموازاة الظروف القائمة حتى يأتي الله بأمره ؟

تطبيق عملي :

ما حكم الشرع في اختلاف الناس في رؤية الهلال وبخاصة في رمضان ؟

وجدنا الفقهاء يستدلون بنصوص حديثية على ضرورة رؤية الهلال – بالعين المجردة – ويذودون عنها بما أوتوا من قوة جدل علمية، مستميتين بأن لكل بلد رؤيته ؛ ناسين أو متغافلين نصوصا قرآنية وحديثية تقر الأخذ بالحساب اليقيني ؛ مما يدكي نار الحلاف بين المسلمين. فهل يرضى عنا الله ورسوله والحالة هذه ؟

وفي استماتتهم تشبث بفتوى بعض الصحب الكرام رضي الله عنهم، فضلا عن التابعين وتابعيهم بإحسان، وتلك أمة قد خلت واجتهدت لزمانها ومكانها، والفتوى تتغير وفق تغير الزمان والمكان والأشخاص والنيات والأحوال.

فهل لنا أن نعض على فتواهم بالنواجذ وزماننا غير زمانهم ووسائلنا غير وسائلهم ؟ وبخاصة قد أضحى السفر إلى القمر والأجواء الفضائية العليا من الرغبات الملحة لدى المترفين، وتبين حسابات ولادة الهلال عند الغربيين بأن هناك فرقا من دقيقة ودقيقتين على أبعد حد، بينما تضحي ولادة الهلال عند المسلمين تمتد إلى ثلاثة أيام .

مع السنن الإلهية

وإذا ما سلطنا نور السنن الإلهية على الموضوع وجدنا الحق جل جلاله قد اعتمد الحساب في تكوين الكون لقوله سبحانه :

]فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ (الأنعام:96)

]الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ[ (الرحمن:5)

]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: من الآية185

فلفظة ” شهد ” تأتي بمعنى المشاهدة العينية وبمعنى الرؤية اليقينية بدليل قوله تعالى :

]شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ (آل عمران:18)

فشهادة أهل العلم هناك تتجلى في علمهم اليقيني ؛ إذ الرؤية البصرية ممنوعة قطعا بدليل قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :

[لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ ][1]

وكما يوحي بذلك قول إخوة يوسف :

] وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ[ (يوسف: من الآية81)

وما ذهبنا إليه في تعريف لفظ ” شهد ” يشهد له تعريف الأصفهاني حيث يقول : “والشهادة : قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر” [2]

* أما الأحاديث النبوية أسوق منها :

عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: َ [إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ][3]

وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ. وحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلشَّهْرِ الثَّانِي ثَلَاثِينَ] [4]

وتضفي هذه الأدلة دلالة إضافية على اعتماد الحساب اليقيني، ومعلوم أن الحساب اليوم بات مؤكدا ؛ إذ لا نجد فرقا بين حساباتٍ لبريطانيا وفرنسا وأمريكا إلا بدقيقة أو دقيقتين -على أبعد حد- في تحديد زمن ميلاد الهلال.

ولا حجة لمحتج بالرؤية البصرية المجردة ؛ إذ كان ذلك حلا وسطا وسبيلا في تعذر معرفة الحساب ، فضلا عن كون الأحاديث النبوية فيها دلالة وحث على اكتساب هذه العلوم بضوابطها حتى لا نبقى إلى الأبد أمة أمية لرفع فرض العين على الأمة.

وهكذا جاءت سنن الله لتؤكد بأن الحساب هو أصل عليه مدار الشمس والقمر. فكيف بنا نعرض عن الأصل ونذهب للحلول الجزئية والتي جاءت لظروف تعذر معها معرفة الحساب ؟

{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام:96)

فهل نعرض عن الأصل لنتمسك بالحلول الظرفية لزمان صعب فيه معرفة حساب ولادة الهلال، فكانت الرؤية وسيلة للتأكد ولإقامة الحجة على الناس ؟ وهل تأكد لدينا بأن لا شيء يخرج عن نطاق أفعال الله ؟ وهل بان لنا مدلول قوله تعالى:

] مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[ (الأنعام: من 38).

مع القصص القرآني

ضرب الله لنا مثلا من قصة أصحاب الكهف كيف أنهم اتخذوا كل الإجراءات الوقائية والاحتياطية من الوقوع في يد المشركين، ولكنهم لم يأخذوا في حسبانهم عامل الزمان فكان ذلك سبب العثور عليهم، وفي ذلك يقول عز من قائل :

]وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَدا(ً20) [ (الكهف).

ولكم تردد الناس سابقا عند ظهور الساعة الموافقة لخط كر ينتش هل يقبلون اعتماد ميقاتها للصلاة أم يرفضونه ؟ ولا نجد الآن من يتلجلج في اعتمادها ؟ وكم ناوشوا وجادلوا في استعمال مكبر الصوت للأذان ؟ وهكذا مع كل المخترعات… ودعنا من زعانف التحجر والعض على ميراث السلف بفلسفة :

] وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ[ (الشعراء: من الآية74).

فاعتماد شمولية التفكير باتخاذ الدراسات الاحترازية والوقائية من أولى واجبات المسلم، فلم تعد الفتوى اليوم قاصرة على إمام المسجد، بل لا بد للمفتي من مجاورة الخليفة حيث تتجمع المعطيات وتساس الأمور، فإمام العامة ينصب للفتوى العامة لشؤون المسلمين.

إن شمولية الإسلام تأبى علينا أن نقبع على فكر ونجمد عليه، بل تريد منا جمع أكثر المعطيات الظرفية وتوظيفها خدمة للشرع، حتى لا نعطل سنة الأسباب.

ولئن جاءتنا قصة أصحاب الكهف بكشف لمزالق في التخطيط والدراسة فقد جاءتنا قصة ذي القرنين بنموذج محمود ؛ إذ مكن الله له وآتاه من كل شيء سببا :

]إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً[ (الكهف:84).

فهل نكون ممن استمعوا القول فاتبعوا أحسنه :

]فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) [ (الزمر).

مع الأمثال القرآنية

رفع القرآن الكريم التحدي عاليا للمشركين

{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [148] } ألأنعام

وتدور الأيام ويتوانى المسلمون وزهدوا في دروب العلم والاكتشافات المعاصرة بينما امتطى الغربيون سبيل العلم وتبين لهم سبيل الوصول إلى القمر، وبقي المسلمون وقد قيدهم فهم السلف الصالح للنص بأن لكل بلد رؤيته ، ولنا أن نتساءل :

]أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي [ المائدة:31.

مثال قاله ابن آدم بعد فسوقه بمقتل أخيه؛ ونقوله بعد خروجنا عن تعاليم الشرع بعدم حمل راية العلم ؛ فهذه بضاعتنا ردت إلينا.

يرتقي أصحاب الظن والخرص والتخمين سبل العلم ويتربعون على عرشه كأته ملك لهم ويقصر المسلمون في مجال البحث العلمي والاختراعات ما يجعلهم نكرة لم تدخل سباق العلم ولم تتألق رواق الاختراعات ولا الاكتشافات العلمية ومن هنا نسمع أقوالا غير علمية تفرق بين الرؤية الشرعية والرؤية العلمية ؟؟؟

ولا ينقص الأمة علماؤها، إنما للمواقف السياسية دخل في فرقة المسلمين، فضلا عن تأثير الأيادي الصهيونية الساعية إلى بث فرقة بين المسلمين وتشتيت صفهم، لكون وحدتهم لا تكون إلا على حسابها.

فهل يجدوننا رجالا نستجيب لمصالح الأمة العليا فوق كل الأطماع، أم تراهم يسوقوننا أتباعا تابعين لهم ؟

[1] – أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن باب ذكر ابن الصياد.(ج4/2245 رقم 169).

-[2] ألفاظ القرآن مادة شهد.

[3] – رواه البخاري في كتاب الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : “لا نكتب ولا نحسب”.

[4] – رواه مسلم في كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤيته.

اقرأ كذلك

لماذا انساق الناس وراء الأسماء الله المفردة دون الأسماء المركبة؟‏

  لماذا انساق الناس وراء الأسماء الله المفردة دون الأسماء المركبة؟

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

twelve + six =