فالله جلت قدرته وتعالت إرادته لا يؤاخذنا إلا بالعـلم اليقيني المطلق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من هنا وجب الرجوع إلى الله ثم إلى سبيل الهدى ومنار الخلاص : كتاب الله ؛ نستنطقه عن كليات السنن الإلهية التي قيد الله بها مسار الحياة
قد يقول قائل وما يضير والقواعد الفقهية كلها أغلبية نسبية وأغلب الظن الراجح به يقضي القاضي ؟ وتصحيح الحديث نفسه انبنى على غلبة الظن الراجح، فيما يرويه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه ؟
لا غرابة في الأمر، إنما النسبي قد ينطلي على بعض جزئيات لا تنضبط بضوابطه، ومن هنا يضحى الأمر يحتمل ويحتمل ؛ وكما هو معلوم، لا حجة مع الاحتمال. واعتماد الاحتمال قبل إدراك اليقين مسألة معفو عنها إن شاء الله، لكن وبعد إدراكه فهل يترك اليقين مجالا للنسبي ؟
كان هذا الانحراف من أول نتائج احتكاك الفقه ذي المصدر الرباني بعـلم المنطق النسبي، وبعلم الكلام الذي خاض في الإلهيات بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
و إذا، فما العمل والحالة هذه ؟
لا بد من اعتماد ضوابط السنن الإلهية حيث اليقين المطلق، وحيث ينتفي الشك إطلاقا ؛ وذلك لفهم الواقع فهما سليما، وإخضاعه لنصوص الشرع.كما تعتمد السنن الإلهية ضوابط لفهم الشرع فهما سليما في وحدة موضوعية متكاملة، وبرؤية منهجية شاملة.
*- تساؤلات تفصيلية
فأين هذا الطرح من الشتات الفكري الذي نجده في مختلف العلوم الشرعية، فعلى سبيل المثال لا الحصر :
أ- أنظر على سبيل المثال ما جاء عن ابن القيم من رأي الأشعرية ونفي التعليل في أفعاله سبحانه وتعالى والله جل علاه يؤكد :
n
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[1]
وما جاءنا الرسول الكريم إلا ليعلمنا الكتاب والحكمة. والحكمة كما قال القنوجي : وهي كمال القوة النظرية، وهي التوسط بين الرذيلتين البلادة والجربزة، الأول تفريطها، والثاني إفراطها” [2] وإدراك الحكمة من أفعال الله هو سبيل للفهم عن الله مراده في الكون، هذا فضلا عن أنه عزت قدرته وجلت إرادته فهو لا يسأل عما يفعل، ومع ذلك يعلل لنا في كثير الأحيان عن حكمة فعله تبيينا لنا وتعليما.
ولا ريب أن عدم تعليل أفعال الله -وهي عقيدة أشعرية التي يعتنقها %95 من المسلمين في أنحاء المعمور،- كان لها التأثير المباشر في تأخر المسلمين .وما جاءت كتب سلسلة : ” السنن الإلهية : ضوابط العلوم والمعارف” إلا لتبيين وتكشف هذه العثرة.
ب- ماذا يعني علماء القرآن بتأصيلهم لضوابط النسخ في القرآن ؟على حين يرفض الأصوليون القول بالتعارض في القرآن فأنى يعتمد الترجيح بين النصين ؟ وبالأحرى الوصول إلى القول بالنسخ ؟ ومع ذلك تأبى المقلدة إلا القول بالنسخ جرا لمورثات الآراء، ويختلف المتأخرون عن المتقدمين في عدد لآي المنسوخة، بل وحتى في الآيات المنسوخة ذاتها. وإذا ما نظرنا إلى الأمر بجدية من زاوية السنن الإلهية وجدنا الشرع اعتمد التدرج أسلوبا، وظنه الظانون نسخا.[3]
ت- ما القول الفصل في الآيات التي خص لها المفسرون تفسيرات عدة وتركوها بدون حسم ؟ أنظر على سبيل المثال لا احصر ما جاء في التفاسير في شأن قوله تعالى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[4].
ث- ماذا تعني الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين ؟بل وكيف يعقل بأن الشريعة المحمدية التي جاءت حاسمة لأكثر الذي اختلفت فيه بنو إسرائيل، أن تحمل في بدورها أسس الاختلاف، وهي تدعو إلى وحدة الهدف للشرائع السماوية، ووحدة الأمة الإسلامية، بأولها و أخرها، بل وجعلت من شرط المتأخرين للالتحاق بركب السلف الاستغفار لهم ؟- ولما غابت هذه النظرة الشمولية عند أسلافنا استفسروا في استغراب : هل شرع من قبلنا شرع لنا ؟ وهل القرآن الكريم كتاب تشريع أم كتاب تأريخ ؟.
ج- كيف استباح الناس حمى شرع الله وأدخلوا فيه -من جراء تقصيرهم – ما ليس منه، وتكلموا عن المصالح المرسلة : وفتحوا باب الأهواء ؟؟؟ [5].
ح- ويا لكم حثنا الله على علم اليقين وعلق عليه فتح حجاب الغيب !!! بينما انهمك الباحثون من المغاربة واتجهوا كغيرهم من الغربيين والمشرقيين إلى النظريات : نظرية التقعيد ، نظرية التقريب والتغليب ، نظرية المقاصد ، نظرية الضرورة الفقهية ، النظريات الفقهية ، و هلم جرا.
خ- ما الذي حدا بالمتأخرين من أهل الحديث أن دعوا بعدم خوض الكلام في تصحيح الحديث وتضعيفه لما آلت إليه أوضاع ومكانة الباحثين العلمية الراهنة[6].
د- ما الذي أوقف العطاءات الفقهية حتى أصبحت لا تواكب العصر ، بل وأصبحنا عالة على فقه قديم، كتب لزمانه ومكانه نستنطقه لمستجدات عصرنا؟؟؟
ذ- ما الذي دعانا للإعراض عن لمس روح القرآن،-سبب إعجازه حقا- وجعلنا ببغاوات نتكلم عن القرآن وإعجازه سفها، ونعرض عن الاحتكاك ببلاغته وتشربها وتعلمها ؟ إذ من أجل مهام الرسول صلى الله عليه وسلم : تعليم الكتاب ذي البلاغ المبين؟
ر- ما الذي جعل أبواب الفقه في كل مذهب متشابهة في عناوينها، مع أنها قد تلتقي في اجتهاداتها أحيانا و قد تختلف في كثر من الأحيان .
ز- ما الذي دفع المسلمين ليكونوا أضحوكة عند غيرهم لكونهم لم يدركوا متى ولد هلال رمضان، فيضحى الفارق بين دولة ودولة ثلاثة أيام ؟
س- وتطول التساؤلات في الأمور التفصيلية…
*- تساؤلات كلية :
أما في الأمور الكلية فقد تركت مجالات شتى من كتاب الله لم يلمسها الفقه في أي مذهب من مذاهبه الفقهية على اختلافها وتنوعها. وعلى سبيل المثال :
أ- ما تناول المتكلمون في العقيدة إلا نتفا تترك أمور السلطان وشأنه خشية بطشه بينما هجموا هجوما شرسا على الأضرحة الأولياء وقبور المسلمين ؛ وما أدركوا أن العقيدة الإسلامية انبنت على الاعتزاز بالله ربا والاستظلال بظل كلمة التوحيد في كل لحظة وحين، مع عدم الركون للظالمين ولو خوفا منهم ، فضلا عن الاستغفار للذين سبقونا بالإيمان. وأدرك الطالبان بأن من تمام الإخلاص لله تحطيم صنم بودا ، لكنهم ارتضوا الاستظلال بالمظلة الباكستانية وما أدركوا أنها ستنقلب عليهم ضدا وفق عهود الله، وسننه القرآنية والكونية.وما أوتوا إلا من جراء عدم إلمامهم بالسنن الإلهية القرآنية منها والكونية.
ب- ما تناول الفقهاء نظام الدولة وشكلها وقانونها الدستوري ، والإداري ،والاقتصادي والسياسي ، والاجتماعي. لكون ذلك الحمى كان محرما الخوض فيه تحت الأنظمة الحكم المختلفة التي ساهمت في إغلاق باب الاجتهاد.
ت- لقد كان من اليسير على الفقهاء استخلاص القواعد الفقهية، وما كلن من السهل عليهم استخلاص نظرة شمولية قرآنية وإدخال الواقع وإخضاعه لرؤيتها.
ث- كيف يمسك الفقه بتلابيب فقه سياسي متطور لا يرفع مصطلح ” الخروج على الحكام” في وجه كل معارض سياسي.
n
ج- في زمن الحرب على الإرهاب ما هي المعايير الحقة لاتخاذ موقف سليم يقف مع الحق لا مع الهوى ؛ لينكشف الفرق البين لتصفية حسابات الدولة مع المعارضة –وهو إرهاب الدولة- مع مبدأ الحرابة وهو إرهاب الأفراد ضد أمن المجتمع.
ح- كيف نستمد من تعاليم الكتاب والسنة سبيل تزكية الأنفس حتى لا نصبح عالة على فقه التصوف ورجالاته – ومهما قيل فيه فهو لا يخلو من دخن-.
خ- من أين لنا بفقه يتجاوز الحدود المصطنعة بين دول الإسلام والمسلمين رغم ما يجمعها من وحدة اللغة والعقيدة والمساحة الجغرافية وفي زمن التهافت على وحدة الدول وتكتلاتها حتى وإن فصلتها الرقعة الجغرافية، والدين واللغة.
د- إلخ…
فالفقه المنهاجي يدعونا لقراءة نقدية بناءة ؛ لتعقب غياب الوحدة الموضوعية والنظرة الشاملة عند فقهائنا.كما يطالبنا النظر من أعالي التاريخ من موقع الإمامة العظمى لتنجلي الحقائق واضحة بينة،حيث لا فرق بين سنة وشيعة، وبخاصة لما يكون الكل عرضة للخطر محدق كما هو الشأن في زماننا. فقه يلزمنا الإعراض مع عدم الإصغاء لهمم السافلة القابعة في سهل الأرض المتنعمة في وديانه وبتروله غير آبهة بمن هم خارج أرضها كأن وحدة الأمة انحلت رابطتها لما حددت الحدود داخل دار الإسلام.
والفقه المنهاجي يرفع راية ترنو إليها الأبصار، وتخشع عندها القلوب و الأنظار، وتتوحد تحتها الدول و الأقطار.
ألم يئن الأوان بعد للإعراض عن اعتماد علم المنطق دليلا ونبراسا يستضاء به من وهج العقل واتقاده ؟ وهل حان الوقت لاتخاذ سنن الله القرآنية مشكاة تنير الطريق ، والبون بينهما شاسع لا مجال فيه للمقاربة ، فأنى تتأتى المقارنة ؟