لكم ترى الغافل في صعود وهبوط وذهاب ومجيء وأخذ ورد. شغل وانشغال وهَم دائب وفكر وجهد. قد تنبهر العيون, بما أنتجت الأيدي وما أسفر عنه الفكر, لما جعل التجديد شعاره, والانضباط مبدأه, والسعي وراء الرفاه الدنيوي همته, ولسلطان الهوى والمغريات سلّم أمره و نهيه. فكر وجهد واجتهاد في حدود الدنيا أهي نهاية المطاف ؟ كيف يجول في عالم الدقة والانضباط في أرجاء هذا الكون الرحيب بعينين مغمضتين معصبتين عما وراء الحس الطبيعي ؟ نظام في الآفاق وانضباط غريب لكل مكونات الكون الرحيب, ونظام في سنن الله في الكون والحياة على أرض الواقع :
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}. الملك : 3-4.
حسرة ترزق اليقين بعظمة الله واليأس من القدرة على رفع تحدي هذا الكون وما يشتمل عليه من الآيات الصامتة والناطقة بلسان الحال والمقال :
{َ ففِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الذريات : 50
{ وفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} الذريات : 20-21
في الأرض آيات تتعدد وتتجدد في كل آونة وحين، يدركها الموقنون المصدقون تنفتح عليهم انفتاح الوردة من آكامها لتفصح عما في جوهرها، تكشف ما في أحشائها من أسرار وما تفوح به من روائح تعطر الكون بنسماتها وتزكم أنوف الذين لا يفقهون للكون معنى ولا للحياة سرًا ولا قصدًا.
{و مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} طه : 124.
رفاه وغنى وبلادة حس عن الواقع وما يجرى فيه، والموت وما إليه والمصير وما بعده, وجزاء في الدنيا ترتب عن الفلسفة المتبناة لينتج حياة الضنك والشدة والعذاب الأليم. ما تغني الأموال والغنى الواسع من عذاب الله من شيء؟ ضنك وضيق وشدة تعقب المرء لما يسير نحو المجهول … :
ما سر الحياة ؟ وما سر الموت ؟ وما بعدهما ؟ أسئلة قد يغض عنها بعضنا الطرف تغافلا، لكنها تؤرقه أرقا، وقد يعض بعض آخر يده ألما وحسرة على عدم الإلمام بجوهرها.
ليست في الفلسفات المادية إجابات واضحة عن هذه الأسئلة، لكونها لا تفك لغزه بقدر ما تحاول الإبحار بعيدا عن عالمه تمويها ونسيانا، لعل إحراج السؤال يبعد بالإعراض المؤقت، إبعادا عن ساحة فكر يقض المضجع ، و إعراضا يستهوي السقوط في أحضان النسيان العمدي : الخمر، وما يبعد العقل عن التذكر والتفكر…
{َ ففِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الذريات : 50
الأستاذ محمد جابري الموقع الرسمي