{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }سورة الحديد
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشكره شكرا يستزيد من فضله ومنّه وكرمه.
يعمد الباحثون في الجامعات على منهجية البحث في تصميم يرتقي بالفكر البشري رويدا رويدا فاتحا مغاليق الفهم بعتبات ومقدمات وتمهيدات ومفصلا الطرح العلمي في أبواب وأبحاث ومطالب وفروع ، وهو بهذا يسلك سبيل بحث علمي منطقي ولا لوم إذ البحث الذي لم يؤسس على أصل متين لا يبدي قيمته العلمية ، ولا يبرز مكانته بين العلوم.
وإن لم نختلف في تقنيات البحث والتنقيب فهل هي كافية لاستجلاب واستخراج الجديد من العلوم الكمينة في كتاب الله ؟
فليس العلم بكثرة التحصيل ، والاستناد لمراجع من سبقونا من أهل العلم ، وإنما العلم يتأتى بالذل والتذلل بباب رب عزيز وهاب ليمنّ علينا بالفهم والبيان والاستنباط لما أغلق على من سبقونا من أهل العلم؛ فالتجديد الذي يتغناه كل باحث لا يخرج من معين الأبحاث المنهجية وإنما يستجيب لمتطلباتها ويواكب سيرها ليبدي علميته وينشر جديد ما وهبه ربنا الأكرم لعبد من عباده.
فالعلوم الإسلامية اليوم في حاجة ماسة لرؤية جديدة ولقفزة نوعية تشحدهما معايير جديدة مؤسسة من كتاب الله ومنضبطة بعهود ربانية أرسى الله عليها سير الكون واستمراريته إلى أن يأخذ الأرض ومن عليها.
لقد تساءل الأصوليين رحمة الله عليهم :
كيف يمكن أن نحكم نصوصا محدودة ومعدودة في أفعال العباد التي لا حد لها ولا حصر ؟
فانطلقت الهمم وتشتت الإرادات فجاءتنا أبحاث في القواعد الفقهية وانشغلت بها الهمم بين مقتصد ومتوسع وفتحوا بابا ضل معتمدا في الاستنباط الأحكام وتيسيرها إذ التعامل مع القواعد الفقهية أيسر من استنباط الفهم من النصوص. كما جاءنا الغزالي ومن سبقه بفقه المقاصد الشرعية وتوسع فيها الإمام الشاطبي وتنوعت الاجتهادات ؛
وبقي من بقي متمسكا بحرفية النص وظاهريته ظنا منه بأنها أسلم السبل وأقومه وشكر الله جهد كل مجتهد ما صدقت نواياه وأخلص العمل لوجه ربه الكريم وانطوت عليه جوانحه ؛ فبصدق الصادقين يعظم أجرهم عند ربهم.
كل هذه الجهود ما دلتنا على أننا نتعامل مع فقه لرب سريع الحساب بل هو سبحانه وتعالى أسرع الحاسبين ، وأن كتابه العزيز تحدث لنا عن كلماته التامات :
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) } سورة لقمان
ويبقى هذا النص عديم الجدوى بعيد الفائدة في ظل فقه منطو على المذهبية متغن بها مدافع عليها ؛ بل ويعض عليها بالنواجد في بيئة تبنت الجزبية الفقهية وتشيعت لها حرصا على فقه أموي وعقيدة أشعرية سافهة تجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ؛ فضلا عن ارتكازها على صوفية الجنيد كأنهما جاءا ليكمل نقصا وجدوه في كتاب الله ـ وتعالى الله وكتابه عن أي نقص ؛ إذ ما فرط الله في الكتاب من شيء.
والسنن الربانية تعددت وتنوعت وتكاملت في تنوعها وتكاملها وتأسست على زوجية متكاملة الأدوار ؛ حيث ينقلب الزوج من نقيض إلى نقيض إن توفرت دواعي التحول والتغيير ، كما أن السنن تتداخل وتتمازج وتتعدد بتعدد تشابكها وهي في تعدادها لا عد لها ولا حصر يحصرها إلا الحواسب المرتبطة في تناغم وانسجام لمجموعة من الحواسب ذات العدد.
وأبان لنا جل جلاله بأنه من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا :
{ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) }سورة البقرة
وللتوصل لإدراك الحكمة الربانية في أفعاله جل وعلا وأقواله فالقرآن يرشدنا لباب التذلل بين يدي الله حيث العطاء بغير حساب :
{ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) }سورة النساء
وبهذا جعل القرآن ضابط المرء وحظه من الله بقدر همته وما ناشدته غايته وما ارتقى إليه فهمه ، وما دام الأمر مستند للدعاء فقد أمرنا بالتوسل بأسماء الله الحسنى المركبة ” الله العلي الكبير ” لتجد البشرية العطاء الرباني مبسوطا بين آيات كتابه وما كان على المرء إلا الجمع والترتيب.
ومعلوم مسبقا أن الخوض في هذا المجال خوض في أفعال الله جل شأنه وتعالى في كبريائه وعظمته ؛ والخائض في هذا المجال لا بد له من إدراك الحمى الرباني الذي يدخله وما يستلزمه من متطلبات الأدب
مراعاة لحرمات الله جل جلاله حيث تأسست كل أبوابه على جولة في عهود الربانية التي لن تجد لها تبديلا ولا تغييرا ولا تحويلا ، وعلى خلاف مع العلوم الأخرى فالمتتبع لهذا العلم يلمس تكريم الرب لعباده بما أودعه في كتابه العزيز ، وهذا أمر ليس بمنفتح على أي كان ؛ لكون الله صرف أقواما عن إدراك كنهه وبلوغ مقصده :
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) }سورة الأَعراف
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)}سورة طه
سواء من تكبر في الأرض بغير حق أو من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه وغيرهما من المواصفات الجاحدة بالحق لن يطمع أصحابها بشم رائحة الفتح الرباني والفيوضات الرحمانية مهما علت درجاتهم العلمية ومهما أوتوا من بلاغة البيان وفصاحة اللسان وقوة الجدل ودهاء المحاججة.
ومن هذا المنطلق أقول إن البحث في سنن الله القرآنية والكونية عملية تعلقت بأفعال الله جل شأنه ؛ فليس الكلام فيها من غير دليل من كتاب الله إلا تقولا على الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ؛ الشيء الذي يرفع القول لدرجة أعظم الذنوب إطلاقا. فهل يستحي المناطقة والمتكلمين وينزووا عن الأنظار بعد بيان الله جل شأنه بأن هذا الحمى ليس مستباحا لهم وإنما خاصيته ومجاله : العلم اليقيني ، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ثم القرآن الكريم.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) }سورة الحج
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) }سورة لقمان.
الأستاذ محمد جابري الموقع الرسمي