ما الذي يغري أنامل الأديب لهز أوتار قتارة الواقع فتعزف لحنا لم يألفه الناس، بل تخشع له القلوب وتنجذب؟
ما الذي يفجر مشاعر الشاعر فتقرا صفحة الصحيفة على عكس المعتاد تارة تمضي على خطها العمودي، حيث تتلألأ أنوار السماء إلى الأرض وتارة تنسحب من ذات اليمين إلى ذات الشمال، وأخرى من أفقي معاكس، أو من الأسفل إلى الأعلى؛ لكنه يروي للناس روايات لم يألفها أحد، رغم استماع الجميع لنفس “الجزيرة”، ويخبر عما لا يراه الناس ؟
وتتناغم أصواته وتصدح بلحنها المؤثر صدح بلبل هز الحدائق الغناء، ورد عليه صدى الجبال السامقات في العلو؟؛ بل صفقت له كل الفراشات وضج الضفدع في خشوع، وبكى الطير الحزين بكاء شجيا، بل رقصت له الزهور رقصات لم يشهد لها مثيلا، فانجذب النخيل واهتزت الأشجار والأشجان في عناق، وسالت الوديان واخضر كل ربيع العمر، وزهت النفوس زهوها العالي، وصفق جمهور مسرحها تصفيقات حارة دوت على نغماتها تسبيحات جليلة تقدس المحراب في تواصل، في تآلف، وفي تناغم،{مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} [الملك : 3].
فليست الكتابة الأدبية سوقا لمفردات سوق الشياه نحو هذا الوطر، وتلك الآبار، تنميقا للأساليب وترصيعا لها بفنون البديع وإيقاع سميع؛ على شاكلة المنافق يلبس لباسا جميلا لقلب تبطنته ميكروبات الغش، وأكسيد الفساد، ووخزه شوك القتاد؛ وكل من لامس أبجدية الثقافة يجمع الكلمات ويحشر المصطلحات، وينادي نداءا عليا، بصوت وصيحات فرعونية: أنا…
إنما ترفرف أعلام الكتابة الأدبية فوق الرؤوس بنبرات هزت النفس، وباحت بأسرار عبقريتها، فأسقتها من ذاتيتها: كوبا من خصائص أحاسيسها؛ مما لم تدركه العيون، وما لم تعبر عنه الألسن، وما لم يطرق مسامع المرء، ولم يهز فؤاده البتة:
ذاق، فاستفاق على رنات غريبة وهزات عجيبة، ونسائم لطيفة، وألحان بديعة وطريفة: كأَنْ غدت إكليلا لجواهر مرصعة تلألأت لآلئها وازدان لمعانها، تململه بلطف حينا، وتقرع الطبول بعنف على خده أحيان أخر؛ بل استسلم لها في ساعة فراغ روحي، وسلم كل أحاسيسه ومشاعره لتسكب فيه من رحيقها ما ينتشي به يومه وغده وو…
وما أجمل الكلام حين تنمقه الأحلام، وتنحته ريشة أقلام، وكان لطبل الأذن ملاما، وليسر العيش بجنبه نسائما، حتى بكى : ياليتني…ولات حين مناص…
ومن كوة نور الصباح، تشرق ألوان ” الصباغ ” بألحان شجية، وأصوات ندية،وكلام بديع يسيل رذاذه بماء الحياة فيسقي نفوسا من ريح عوده الطاهر؛ لتتنفس الصعداء نحو الأمل: نحو النور، نحو الصفاء، والإخلاص، نحو الكمال الذاتي في صحو العالم وسكر الصوفي…حيث لا خلاص إلا بالاكتواء بنار النور حتى تفيض الأنوار نور على نور…
نقلع نحو السماء إقلاع الصاروخ ونجنح بعيدا، بعيدا… لنطرق باب المزاج، والخلق، والسجية، والفكر، ليصحبونا جميعا في رفقة نحو العلياء نحو النور فوق الثريا، إلى حيث تحبس الملائك، ويعتلي العلى المقربون.
من هناك حيث النور يجلو كل ظلمة، وتذهب كل حيرة، من هنالك حيث لا ترى إلا ربا وفضلا، نقرأ سطور وردة :
“خلود” لمحمد الصباغ.
“كل ما في الوجود يتعرى، حتى النسمة النحيلة المنسابة على خدود الأغصان، حتى أشباح الوهم السارية في مشاعر الظلمة الواهنة حتى النأمة التائهة في مزالق الصمت الرهيب.
عاريا أرى كل ما في الوجود، وعاريا ألمسه، فالزمن القديم والحديث في ريشتي ألوان وأصباغ أرسم بها لوحة الخلود، والمكان البعيد والقريب عجينة من طين أنفخ فيها فتتحرك بالحياة،والمطلق الغميق والمدى السحيق رجاحتان أرى من خلالهما نطفة الحياة تفرخ وتلد، وتتزاوج.
برقة خيال، أخلق عالما يمور بالسحر، والحمام وصغار العصافير.
وبيقظة حس: أحصد النجوم من مزارع الضوء، وأختلس الأحلام من مضاجع الصبابا، ومراقص الأعراس، مشيدا لكم منها قصورا تروحون وتغدون فيها وأحيانا تطيشون إلى فراغ الزمن.
رب كلمة تقطفها فتاة من عريش كلماتي فتغفو في رفيفها الوردي كفراشة حلم تحلم بمساكب العبير، ورب ابتسامة طفل، تفتق في أصابعي دوالي كرومها من عناقيد الطهر والحنان والفرح الأبيض.
آه كم من ألحان ناعمة في أشجار حديقتي، أهز أغصانها بأنامل خيالي، فتسقط منها قطرات من موسيقى وأنغام، وكم من حبال ضوء في كل نجمة تشدني إلى قلبها بمجرد ما أحدق فيها، فأغدو من عصير البنفسج، ولون المحال.
من زقزقة الطير، ونقرة الوتر، وصفاء الوهم، والمنتهى ريشتي.
أمضي، وفي سلتي سر الخلود، أمسح به على عيون الزهور، والنجوم، والأعشاب الضريرة فتمتلئ بالنور وأزرعه في الصخور والرخام فتفور بالأريج والينابيع والطيور، وأنفخ به على الحصى، وبنات الأحجار فتغدو جواهر ولآلئ وقطرات عنبر.
غدا سيهوى جسدي من شرفة النجوم، فيتكسر على الأرض شطايا عطر، وسر وسؤال مبهم وستظل العوالم التي اكتشفتها لكم خالدة، وستظلون أنتم تحيون في عرساتها الغيبية كلما فاح زهر، ولمع نجم وغرد طير وألقي سؤال.
سأكون دائما على موعد معكم: في اللحون، في الطيوب.
ستلقون صورتي في أنة الرباب، ونضرة الهيام.
كلماتي أرسلها لكم في النجوم، ونجوى العلى، وصحو الخيال، فبعدها لم يعد لحياتي نكهة ولا معنى.”( الأعمال الكاملة لمحمد الصباغ ج7/1)
ولئن أذقتك طبق عشق لرحيق الخلود، ورشفت نخب عبقرية فذة، أسألك عن طعم هذا الصباح، أهي النبوة من فارس الكلم، أوأنة الرباب ونضرة الهيام؟.
وبيقظة حس: أحصد النجوم من مزارع الضوء، وأختلس الأحلام من مضاجع الصبابا، ومراقص الأعراس، مشيدا لكم منها قصورا تروحون وتغدون فيها وأحيانا تطيشون إلى فراغ الزمن.