من الآيات التي اختل فيها تفسير المفسرين هذه الآية, وما هي من المشكل في شيء بل أبت العقول إلا أن تخوض غمار درسها فزلت بها الأقدام.
الرحمن :
اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته العلى:
{قل ادعوا الله أو ادع الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى } الإسراء 110
وهو اسم الرحمان خاص بالله عز وجل لا ينبغي أن يسمي به غيره وهو يدل في مبناه على المبالغة في الرحمة. ” والرحمة في بني آدم عند العرب رقة القلب وعطفه ورحمة الله عطفه وإحسانه ورزقه”([1])
بعد الإشارة إلى الرحمان فما المراد بالخبير في هذه الآية وبخاصة الآية جاءت بعد قوله سبحانه وتعالى :
{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا } الفرقان 58-59
للوقوف على المعنى المقصود وجب تنزيه كلام الجليل عن الإطناب المذموم ومن هنا ندرك الجناس اللفظي التام بين كلمة ” خبيرا” الأولى والثانية كما في قوله تعالى :
{ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } الروم 55
فالأولى تعني الرحمن والثانية تعني غير الرحمن.
لكن إن ساقتنا البلاغة إلى هذا الدرب أيرتضيه باقي مدلول الآية :
فسئل : أمر بالسؤال تعدى بحرف الجر الشيء الذي يجعله لازما لقول ابن مالك : ” وعَدِّ لازما بحرف جر ::: وإن حذف فالنصب للمنجر.
والشاهد عندنا وعدِّ لازما بحرف جر سماه لازما لضعف الفعل الذي طلب المفعول ولم يصل إليه بنفسه بل عدي بحرف جر.
وتعدى الفعل بالباب ولم يتعد ” بعن ” وللأمر نكتة فالمفعول به صار اسما مجرورا وخبيرا أصبحت حالا والحال لا يليق بجلال الله إلا إذا أفاد الدوام والاستمرارية كما في قوله تعالى : ” وهو الحق مصدقا ” وليس الأمر هنا كذلك إذ الخبير هنا حال لمن يحول ويزول حاله وهو المسئول.
لكن ما شأن الباء ” فسئل به “؟
يقول البلاغيون : إنها الباء التجريدية تدخل على المنتزع منه ” لئن سألت فلانا لتسألن به البحر أي بالغ باتصافه بالسماحة وسعة العلم حتى انتزع منه بحرا فيهما.
ومن هنا فالمراد بالباء فسئل به من ينتزع عنه صفة الخبرة به جل وعلا وهي صفة ومرتبة لا تتأتي لأي كان ، إنما يتصف بها من اصطفاه الله جل جلاله لمعرفته وعبوديته له تعالى وخضوعه لجلاله ، على نهج سننه الكونية منها والقرآنية.
ومن هذه الإشارات دلت الآية على أن هناك مأمور بالسؤال ومسئول عنه وهو الرحمن والمسئول الخبير به جل وعلا.
ونستخلص ما يلي :
1- أن الفعل لما تعدى بحرف الجر عده النحويون لازما ومن هنا سقط قول القائلين بالمفعول به للفظة خبيرا.
2- إن الباء الذي تعدى به الفعل كانت باء التجريد جردت لله عز وجل من صفاته وانتزعت منها صفة لموصوف والقمر يستمد نوره من الشمس وشتان بين نور الشمس والقمر.
3- عربت لفظة خبيرا ودلت على أنها صفة من يزول حاله ويحول وهو المخلوق ؛ لكن ليس أيا كان منهم ؛ بل من اتصف بصفة الخبرة في شأن الله جل جلاله وأدب التعامل معه.
4- أما الخبرة بمعنى الإحاطة الكلية والعلم والاطلاع فميئوس منها لقوله عز من قائل:{ ولا يحيطون به علما} طه 110
وتحصل ببركة الإذن الرباني :
– {وداعيا إلى الله بإذنه} الأحزاب 46
وتتوارث بالإذن الرباني, لا باختيار البشر لكون الإذن صادر عن الله جل علاه, وتتعاقب بركة السند وتتسلسل عبر الأجيال في أشخاص ثم اصطفاؤهم من لدن العليم الخبير جل وعلا.{ ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء امة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون} المؤمنون 44 ( تترى أي تتلاحق.).
فهل بعد هذه الإشارات الواضحة يبقى قولا لمن نفى اختصاص العبد الشاهد لله بالقسط ؟ ثم أبعد هذا البيان يتقدم من أهل نفسه بعريضة بيانه وحجة لسانه للمجال دون أن يرتكب زلات لا يدركها إلا أهل العلم بالله وطبعا لا ينكرها إلا أهل الغرة بالله عز وجل.
[1] (1)- لسان العرب ج 12/231.