موانع إدراك السنن الإلهية القرآنية‏

فالسنن القرآنية هي المفتاح للغز سنن الله الكونية ؛ إذ تعبر أصدق تعبير عن كل ظاهرة كونية وتفسرها أبرع تفسير وأبدعه : فكل السنن الكونية نجد لها قوانين وضوابط من سنن الله القرآنية .

لقد أمعن علماء العلوم الإنسانية النظر بمتابعة الأحداث في محاولة لدراسة أنماطها، ولتفكيك ترابطها، وفك ألغازها، فلم يفلحوا رغم كثرة الاختصاصات، واتساع مجالات الأبحاث بمختلف النظريات والتوجهات.

ورغم اختلاف الأقطار، وتباعد الديار، أضحى العالم اليوم قرية صغيرة بفعل المواصلات، وتعدد وسائل الاتصال وتنوعها، لكن عمى الألوان الذي أصاب الغربيين، صرفهم عن النظر في السنن القرآنية، ومن هنا نستخلص عدة سنن تطوقهم، وتمنعهم عن مد يد الفهم إلى كنه حقائق الأحداث من ذلك :

{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين}[َ [ الأعراف : 146].

{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِين لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُورا} [الإسراء : 45]

{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورا} [لإسراء :41].

إن الخالق الذي اختص بالخلق والأمر جل جلاله صرف الكافرين عن إدراك سننه القرآنية، وعن فهم نصوص كتابه حتى ولو حفظوه عن ظهر قلب. وما كتاب ” مذاهب التفسير الإسلامي ” للمستشرق جولد تسهر إلا خير دليل، إذ ساق فيه بلبلة من الأقوال حول الدليل الواحد ليزداد شكا وريبة، بينما دقق الأصوليون ضوابط الفهم.

ما جاء القرآن إلا ليكون نورا وهداية ورحمة للمؤمنين،

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَـوْمٍ يُؤْمِنُــونَ}[ [الأعراف : 52]

{هُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }[ النمل : 2]

{هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين} [لقمان : 3]

{هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَاب}ِ[غافر : 54]

كما جاء ليكون حجة ونقمة على الكافرين والمشركين والمنافقين:

{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّه لا يَهْـدِي الْقَـوْمَ الظَّالِمِيــن} [ القصص :50]

َ{ ولوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِين َلا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد} [ فصلت : 44]

ولا يسع المتمعن في حال الكافرين إلا الصدع والبوح بملء فيه :{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } [ آل عمران : 95]

وإن في ذلك لآية لقوم يؤمنون، وتحديا للقوم الكافرين ؟ فهل من يصون شرفه من الكافرين ليرفع التحدي إعرابا بأنه غير مصروف عن الآيات وفهمها فهما يتطابق مع ما جاء به الأخصائيون من الأصوليين .؟

موريس دي فرجي وشهادته الحقة:

وهذه وقفة جريئة وشهادة حق من أحد رواد العلوم السياسية الذي تمرس في علومها وخبر شأنها، يبوح بما يتحشرج في نفسه من مرارة قائلا :

“لقد وضع ليتره تعريفه في نهاية القرن التاسع عشر الذي كان الناس فيه يعتقدون بأن العلم سيتيح دراسة جميع العلاقات الإنسانية، لا الظواهر المادية أو البيولوجية فحسب ؛ في ذلك العهد الذي كان الناس فيه ينتظرون قيام “العصر الوضعي” الذي بشر به أوغست كنت. فإذا بتطور العلوم الاجتماعية نفسها يؤدي اليوم إلى الحد من تلك المطامح.

إن ما نملكه اليوم من أدوات البحث في الحياة الاجتماعية والسياسية يبلغ مبلغا كثيرا من الوفرة والإتقان؛ لكننا ندرك اليوم في الوقت نفسه الحدود التي يقف عندها استعمال هذه الأدوات، وهي حدود ضيقة.

صحيح أن السياسة في عام 1964م. أقرب إلى العلم منها في زمان ليتره. إن في وسع رجال الدولة أن يستعملوا إحصاءات كثيرة، ودراسات تسبر الرأي العام، وأن ينتفعوا بطرق شتى في قيادة الجماهير، وأن يستخدموا آلات حاسبة إلكترونية، وما إلى ذلك، بل إن رجال الدولة ليستعملون اليوم هذه الأمور كلها فعلا؛ ولكننا نعلم اليوم أن قطاع هذه “السياسة العلم” أصغر من قطاع ” السياسة الفن ” التي تستند إلى أمور غير دقيقة ولا يمكن حسابها، أمور حدسية لا عقلية. ” (مدخل إلى علم السياسة لموريس ذي فرجي ص : 9.)

ولحسن صعب ، كلمة ذهبية : ” والخلق العلمي هو خلق التواضع أمام الحقيقة، ومصابرة لها، ونزاهة في طلبها، وجرأة في إعلانها. وفضائل التواضع، والصبر، والنزاهة، والجرأة، لازمة للباحث السياسي لزومها للباحث الطبيعي. بل هي ألزم للباحث السياسي ؛ لأنه يتناول موضوعات تمس معتقدات الناس ومصالحهم. وكثيرا ما تعتبر النظرية الجديدة فيها خروجا عن المعتقدات السائدة وخطرا على المصالح القائمة؛ولذلك لا بد أن تكون الحقيقة هي ” قيمة القيم ” في نظر الباحث ؛ ليقوم ببحثه، وينشر نتائجه واضعا واجب الصدق فوق أي اعتبار آخر. “(علم السياسة)

صدمة أركون أمام انهيار دولة الشاه

شهدت هذه الفقرة شهادة تقدير لموريس دي فرجي، الذي صدع بالحق في شأن ما يسمونه بالعلوم السياسيةـ لكن الفقرة ذاتها لم تشهد لمحمد أركون وهو يلقي باللائمة على عجز المستشرقين الذين لم يستطيعوا لفت النظر إلى الثورة الإيرانية العارمة، كما لم يستطيعوا دراسة هذا الحدث الذي زعزع استراتجيات الحرب الباردة، والذي لم يكن متوقعا : ” لقد احتلت العلوم السياسية الساحة أكثر من غيرها من أجل شرح هذا الحدث؛ لأنها طولبت بذلك من قبل رجال السياسة ووسائل الإعلام في الغرب.

ولاحظنا تراجع أسهم علم الإسلاميات أو ما يدعى بالاستشراق سابقا.

فالاستشراق الأكاديمي الذي احتل الساحة منذ القرن التاسع عشر لم يتراجع فقط في مجال البحث والتعليم، إنما حطوا من قيمته وراحوا يعتبرونه ماضويا، تقليديا، مغرقا في النزعة الثقافوية والوصفية والنصانية والتارخوية والفيلولوجية. “ا(لفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص : 296.)

ما استطاع أركون وهو يلوم المستشرقين أن يزيح عن نفسه عمى الألوان الذي حجب المستشرقين عن إدراك عمق جذور الثورة الإيرانية، ولا كيف تم نمو تلك الروح التي تحدت نظام ملك الملوك وهو في أوج كبريائه، وفي الوقت الذي كانت أمريكا تعده ليكون الدرع الواقي لمحاصرة تصدير الأنظمة الاشتراكية، فما استطاعت تخليص أعضاء سفارتها ولا انقاد حاجزها الواقي، وجنودها جند مجندون ببلاده ؟.

ولا يسع المرء أمام هذه التحديات التي تواجه الغربيين، إلا أن يعرب بملء فيه عن خطأ علمي فادح أظهر عجز الغربيين عن رفع التحدي، ماداموا قد راموا البحث والتحقيق في كل صغير رأي وكبيره بحثا عن سنن الكون وقوانينه وضوابطها، وهي مبثوثة في كتاب الله ولم يتجرأ متجرئ للمسها واستخراجها من بين ثنايا الآيات.

أليس هذا صرفا ربانيا لهم عن الاهتداء لنوامس الكون، وهو الذي أدرك بأنهم سيكونون السباقين لولوج عالم الفلك في الملكوت: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء : 30]

وتأتي السنن الإلهية شاهدة حق على ضلال الكافرين رغم زعمهم العناية بالأبحاث العلمية على كل مستوى لينكشف كذب المكذبين: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 40].

وما ذلك إلا ليقطع حجتهم يوم لقائه بعد أن رفع التحديات للبشرية جمعاء في مسألة الخلق والأمر، وما دامت البشرية عاجزة عن فك طلسم الخلق وهو بعث الحياة ولو بخلق ذبابة، والأمر الذي هو القرآن الكريم وهما مجال اختصاصه سبحانه وتعالى لا يشاركه فيهما مشارك: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف : 54]

واقتضى أمره سبحانه تعالى للبشرية بالسير الحثيث على هدي من الله وفق تعاليم كتابه، وأن هدى للذين آمنوا به، وأما الذين كفروا به فسيواجهون قطع حجتهم بين يدي جلاله ويلغي اعتذارهم:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[التحريم : 7]

فهل شيء أوعى لهذه النداءات الربانية، ورحمته تستدعي الخلائق لباب كرمه ومنِّه وفوزه العظيم في الدنيا باستكشاف ضوابط السنن الإلهية الكونية والقرآنية، وهم يصيحون بنظرية الفوضى المنضبطة انضباطا كليا وفق برنامج مدروس بعناية؟فضلا عن فوزهم يوم لقائه، إن استجابوا لله والرسول لما يحييهم.

اقرأ كذلك

غاية سنة الله القرآنية

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} باقتحامنا هذه الضوابط لسنة الله نضع …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

twelve − five =