أرسى القرآن الكريم ضوابط التعامل بين الحاكم والمحكوم وأسس لبنية مجتمعية يكتنفها الود والمرحمة القلبية وتؤازرها الحكمة العقلية؛ فلينطلق الموكب في عناية الرحمان أمرنا بطاعة أولي الأمر لينسجم المجتمع في وحدة متكاملة ومتآزرة ومتضامنة فيما بينها، وجعل أمرها شورى بينها كي لا يستبد مستبد برأيه أو لا يستعلي مستعل عمن أناطوا به مسئوليتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وكيلا تنحرف المجتمعات من مجتمع الشورى والتعاون على البر والتقوى؛ وليضحي المجتمع خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله؛ في تآزر وتعاون وتكامل ووحدة وانسجام.
جاء التشريع الرباني لينقد الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
٤٢ـ٢١ أَمْ لَهُمْ شُرَكَٰٓؤُا۟ شَرَعُوا۟ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ ٱلْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ ۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وتأبى سنة الله أن يمضي المجتمع على حرف واحد؛ لكونه لا يفيد الدوام والاستمرارية. وهكذا شرعت سنة الله على الزوجية المتكاملة الأدوار، حيث ينقلب كل زوج إلى دور نقيضه إن توفرت عوامل التغيير.
ولهذا المنافقين يعز عليهم وجود مجتمع طاهر وظاهر على غيره من المجتمعات لذلك تراهم يتحالفون مع كل شيطان مريد، ويسمعون لكل ناعق يستجيب لهواهم. وكشف الله لنا مواصفاتهم وأقوالهم وحذرنا من عداوتهم وما تجلبه على المجتمع الطاهر فكانت من مواصفاتهم مجتمعين : ( ٩ـ٦٧ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتُ بَعْضُهُم مِّنۢ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا۟ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ ) إنها الزوجية لاستكمال أدوار التاريخ
ولم يأمرنا جل جلاله باستئصالهم من الواقع؛ وعلى عكس ذلك أمرا بترك إذايتهم والتوكل على الله: فالمجتمع الذي لا يشتمل على معارضة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية المهم أن يتأتى للمجتمع مجالا للتنافس في الخير. هكذا وليستكمل الله حلقات استخلاف عباده في الأرض فجعل الأيام بين الناس دولا مؤمنون ومنافقون وكافرون؛ وكلما تاهت فئة عن تعاليم ربها جاءها العذاب نكالا من رب شديد العقاب؛ ليدركوا بأن سنة الله لا تحابي أحدا وأن كل من استحق العقاب فوجئ به من حيث لا يدري، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا غير أن الناس ألفوا التعامل بردود الأفعال المتقاربة الخطى والمتسرعة، فلا يلتفتوا لمقتضيات سنة الله في إمهال الظالمين والتي تقتضي ببضع سنين.
ولهذه الغاية النبيلة جاءنا القرآن الكريم بضوابط لا تترك لبسا لملتبس؛ وحثنا على الوقوف في وجه الظالمين أي كانوا للمحافظة على وسطية المجتمع من الانحراف إلى التطرف والعدول عن الوسطية التي ارتضاها لنا سبيلا ومسلكا؛ إذ الوسطية نقطة بين طرفين مذمومين يسعى لكل منهما الظالمون وهم بطبيعة الحال لآيات الله يجحدون:
ولئن تعهد الله للمؤمنين بالتثبيت فقد عهد الله أيضا للظالمين بالضلال :
١٤ـ٢٧ يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ }
وهل يستأمن الظالمين الضالين على ما يجحدونه؟
وهكذا يتضح لنا بأن تخطيطات الظالمين تبور مع كيدهم ومكرهم . بينما يخطط المؤمنون لمشروعهم على وفق سنة الله التي لن تجد لها تبديلا ولا تغييرا ولا تحويلا وتبدو مخططاتهم مثالية أكثر من اللازم؛ وبهذا يصبح المؤمنون عرضة لسخرية الظالمين؛ لكن قانون الله يأبى إلا أن يسد كل منافذ الكافرين لكيلا يكون لهم على مؤمنين سبيلا رغم ما تتمتع به أعداؤهم من قوة عدة وعدد؛ اللهم إلا في حالة واحدة استثنائية، وليس ذا موطن التعرض لها.