إن النسخ قال به جمهور العلماء، والنسخ أيضا يقول به المجتهد بعد وجود تعارض بين نصين من كتاب الله تعذر الجمع بينهما من وجه من وجوه الجمع ــ وهذا في حد ذاته محال إطلاقا أن يوجد في كتاب الله ــ فيصار إلى الترجيح, وإن تعذر ينظر في أقدمهما فيعتبر منسوخا واللاحق يعد ناسخا .
وإذا قلنا باستحالة تعذر الجمع بين دليلين تساويا في القطع والدلالة؛ فما ساقه علماء علوم القرآن من الآيات الأربع التي قيل بنسخها؛ فيرد القول فيها بالنسخ بدليل وجوه الجمع بين الدليلين. فأنى يصار فيها إلى الترجيح؟ وأنى يبلغ المرء القول بالنسخ ؟
ــ أنظر لائحة وجوه الجمع بين أدلة قيل عنها منسوخة وأخرى ناسخة أسفله ــ.
وخلاصة الأمر :
ما وجدت بضوابط الأصوليين إشكالا في التعامل مع نصوص قيل عنها منسوخة وأخرى ناسخة، والذي بدا لي من خلال هذه الدراسة أن الأمر خلاف اصطلاحي لا غير:
فالمتوسعون في القول بالنسخ خاضوا في العام والخاص والمطلق والمقيد و… وبعد القرافي وفضل كتابه “العقد المنظوم في الخصوص والعموم ” تراجع القول بالتوسع في النسخ.
والواقفون عند القول بالنسخ للآيات الأربع لم يأخذوا المعايير الأخرى للتشريع، فقد تنزهوا عن سابقيهم بعدم إضافة الخاص والعام والمطلق والمقيد إلا أنهم لم يراعوا خصائص التشريع ومنها :
التيسير ــ التدرج ــ التخفيف والتشديد رفعا للحرج ؛
ولو نظروا إلى الأمر من هذه الزاوية ما قالوا بالنسخ في القرآن.
وآنيئذ يبقى علينا تفسير أقواله عز وجل التالية من منظور سنن الله القرآنية :
{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} .
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}
في ظل قوله تعالى :
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [قـ : 29]
وهذا موضوع المداخلة المقبلة إن شاء الله.
* وجوه الجمع بين أدلة قيل عنهامنسوخة وأخرى ناسخة
1) عقوبة الزنى بالحبس في البيوت أو الضرب والإيذاء في سورة النساء نسخت الآيتين بما جاء في سورة النور فأثبتت الجلد لغير المحصن, والرجم للمحصن بالحديث المتواتر, وفعل الرسول كما ورد في قصة ماعز.
1- إنه تدرج في التشدد على ما يفسد المجتمع
2) الأمر بالقتال والثبات أمام الأعداء الذي ورد في سورة الأنفال قد قيد بشرط ألا يتجاوز المقاتلون من الكفار عشرة من أمثال المقاتلين المسلمين. نسخ هذا العدد تخفيفا عن المؤمنين إلى مثلي عدد المؤمنين.
2- إنه تدرج في التخفيف عن المؤمنين قبل مبادءة القتال. أما عند بدئه تأتي الآية صارفة للعدد (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ[الأنفال : 15] لكون الجهاد عندها فرض عين على كل مكلف.
3) إن تقديم الصدقة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مناجاته كان فرضا محتما بمقتضى الآية الكريمة في سورة المجادلة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة : 12] ثم شاء الله التخفيف، وهو تقديم الصدقة وعدمه عند مناجاة الرسول.
3- إنه تدرج وتخفيف. فمن استطاع الإنفاق عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فعل, ومن لم يستطع فعليه بإقامة الصلاة وهي صدقة, وإيتاء الزكاة وهي أيضا صدقة. إنه التنبيه لتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم , سواء كانت صدقة مال أو تطوع صلاة ؛ لما في كليهما من تطوع وقربات.
4) قيام الليل كان مفروضا في صدر الإسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى جميع المسلمين طاعة لله وتطهيرا للأنفس وبعد اثني عشر شهرا شاءت إرادة الله تبديل هذا الحكم وجعله تطوعا بعد أن كان فرضا.
4- لم يكن القيام فرضا على المؤمنين باستثناء رسولنا الكريم عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم بدليل قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل : 20] لم تقم معه صلى الله عليه وسلم إلا طائفة من المؤمنين؛ ولو كان فرضا للزم قيام الجميع.
ونظر بعضهم إلى قوله تعالى {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [المزّمِّل : 20]، فالتوبة جاءت هنا رفعا للحرج على مقتضيات القواعد الكلية للسنن الإلهية.
وهنا ليس في الآية بتاتا نسخا ولا تدرجا، فلم يثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم ترك القيام أصلا. ثم ألا ترى تبريره لأمنا عائشة :
أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : [( أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا )] . فلما كثر لحمه صلى جالسا ، فإذا أراد أن يركع ، قام فقرأ ثم ركع .
(الراوي: عائشة المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – لصفحة أو الرقم: 4837 خلاصة حكم المحدث: [صحيح])
وهل يكون هذا تبريرا للانشغال بالفرض؟
{ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [قـ : 29]
أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : [( أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا )] . فلما كثر لحمه صلى جالسا ، فإذا أراد أن يركع ، قام فقرأ ثم ركع .
(الراوي: عائشة المحدث: البخاري – المصدر: صحيح البخاري – لصفحة أو الرقم: 4837 خلاصة حكم المحدث: [صحيح])