بين الدراسات الاحترازية والوقائية القرآنية والدراسات المستقبلية المعاصرة
9 مارس، 2013
وقفات مع العلوم السياسية و الإجتماعية
101 مشاهدات
مدخل :
1- أبعاد الدراسات القرآنية :
لئن غلب على ظاهرة الدراسات المستقبلية في قديمها الكهانة, أو الظن وخرص الغيب ؛ فإن ما يميز حديثها هو اعتمادها على الإحصائيات, ودراسات العينات, وهي أيضا ضروب من التقدير والخرص، والكذب بالدقة وإلى هذا يشير القرآن :
{ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}الأنعام :148
{مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} الزخرف : 20
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الذاريات : 11.
أ- ذم الكذب
ما جاءت عبارات القرآن لتذم الخرص والخراصين إلا لما باعدوا الصواب و جانبوه في مجالات انبنت العلوم الربانية فيها على اليقين التام الذي لا يخامرك فيه شك، ولا تراودك فيه التنجيم.
قال الراغب الأصفهاني ” وحقيقة ذلك: أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال: خرص، سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين، كفعل الخارص في خرصه، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا – وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر عنه – كما حكي عن المنافقين في قوله عز وجل :
{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون : 1]
وليس الذم هنا ذما للإحصاءات، والتقديرات، وعلومها، فهذه وسائل، والحكم عليها ينبني على مآلها، وما تفضي إليه من نتائج، وما ترمي إليه من أهداف.فمعلوم بأن الإحصاءات غير الشاملة، التي تنبني على العينات، تأتي فيها النتائج على وفق ما انتخب من جزئيات الموضوع :
1- فإن كانت العينات شاملة لنسيج من العناصر المحصاة بدقة علمية جاءت النتائج أقرب للصواب ؛
2- وإن انتقيت العينات عشوائيا، وأخطأت الصواب، جاءت بنتائج مضلة.
وما كان الله جل علاه ليذم الإحصاء ويتخذه سندا لكل شيء :
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يـس:12.
وما عمده القرآن والسنة المطهرة هو إبعاد الأوهام والظنون المخطئة، والكاذبة عن مجالات العلم. pفعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال : انكسفت الشمسُ في عهدِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم- يوم ماتَ إِبراهيمُ ابنُ رسولِ الله – عليه الصلاة والسلام، فقال الناسُ : إنما كسَفت لموت إبراهيم ، فقام النبيُّ – صلى الله عليه وسلم- ، فصلى بالناس سِتَّ ركعات …فقال : يا أيها الناسُ ، إِنَّمَا الشمسُ والقمرُ آيتان من آيات الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلُّوا حتى تَنْجليَ.]( أخرجه الإمام أحمد 3/317 وهو حديث صحيح ، جامع الأصول.)
ومن هذا القبيل ما رواه عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – : [أَنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم- قال: « مَنِ اقْتَبَسَ بابا من النجوم لغير ما ذِكْرِ الله، فقد اقتبس شعبة من السّحر. المنجّم كاهن. والكاهن ساحر. والساحر كافر] (أخرجه الإمام أحمد 1/227 وأخرج أبو داود الثانية مسند الإمام أحمد 1/311.)
وفي رواية : مَنِ اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السّحر، زاد ما زاد (أخرجه الإمام أحمد 1/227 وأخرج أبو داود الثانية مسند الإمام أحمد 1/311. )
وليس هذا ذما لعلم الفلك، إنما هو ذم للمنجمين والكهان والسحرة.
وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن محيريز أن سليمان بن عبد الملك دعاه فقال : لو تعلمت علم النجوم فازددت إلى علمك، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث : حيف الأئمة، وتكذيب بالقدر، وإيمان بالنجوم]( معجم الطبراني الكبير 8/289)
وأخرج عبد بن حميد عن رجاء بن حيوة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وظلم الأئمة.] (السنة للمروزي 1/16)
وقال المناوي : ” تعلموا من النجوم أي من علم أحكامها ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ؛ فإن ذلك ضروري لا بد منه، سيما للمسافر، ثم انتهوا ؛ فإن النجامة تدعو إلى الكهانة، والمنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر في النار، كذا علله علي كرم الله وجهه، قال ابن رجب : والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره “. (فيض القدير ج: 3 ص: 256)
“وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه من الاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز “. (فيض القدير ج: 3 ص: 256)
فلا مجال لإدراج الكهانة، والتنجيم، في المجال العلمي، ولا الأساطير ،ولا الخرافات ؛ لكون مجالات العلوم الربانية انبنت على اليقين الكلي الذي لا يخامرك فيه شك، ولا تراودك فيه دليل.
ب- لزوم الإحصائيات وتوظيفها
وأول من استعمل الإحصاء في الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث طلب الصحابة بإحصاء من يلفظ بالإسلام p فعن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – : قال : كنا مع رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم- فقال : « أحصوا لي كم يَلْفِظُ الإسلامَ ؟ فقلنا : يا رسولَ الله أتخافُ علينا ! ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة ؟ قال : إنكم لا تدرون ، لعلكم أن تُبْتَلوْا ، فَابتُلينا ، حتى جعل الرجل منَّا لا يُصَلِّي إلا سِر ا»ًi.( أخرجه البخاري ومسلم. و أخرجه الإمام أحمد 5/384)
واعتمد الأصوليون مبدأي:
1-الاستقراء، وهو تتبع جزئيات الشيء؛ وهو نوعان . فالتام ينبني على إحصاء كل جزئيات الموضوع، وهي دراسة كلية شاملة، والناقص يعتمد في دراسته أغلب عناصر الموضوع ؛ ومن هنا جاءوا بالقواعد الأصولية اللغوية، ثم القواعد الفقهية،كما اعتمد النحاة الاستقراء التام والناقص، وجاءوا بالقواعد النحوية.
2-الاستدلال : لغة طلب الدليل، ويطلق في العرف على إقامة الدليل مطلقا من نص أو إجماع أو غيرهما وعلى نوع خاص من الدليل، وقيل هو في عرف أهل العلم تقرير الدليل لإثبات المدلول سواء كان ذلك من الأثر إلى المؤثر أو بالعكس (الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لابن البقاء الكفوي ص 114)
واستغنى الفقهاء بهذين المبدأين عن طريق القياس عن علم الكلام المذموم.
2-تطور الدراسات المستقبلية
“وتطورت الدراسات المستقبلية ولم ترق إلى التخصص ” العلمي ” إلا حديثا؛ حيث لم تنقل إلى إطار الجامعة والمدرسة إلا في فترة حديثة للغاية، و انتشرت على أنها مادة ” علمية ” انتشارا واسعا في الجامعات الأمريكية، والسوفييتية، وبعض جامعات دول أخرى”.( الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية, لوليد عبد الحي. ص : 5 ).
وككل العلوم الغربية ؛ فهي تنطلق من دراسة مادية محضة، الشيء الذي يصمها بالعوار، ويجعلها علوما نظرية ترتطم على صخرة الواقع، وتنغمس في أوحاله ؛ محاولة إعطاء تفسير مادي لكل عوامل التغيير الاجتماعي، فهو ضرب من الخرص والتخمين لا غير. وحتى لا يكون الكلام رجما بالغيب ؛ فهذه شهادة شاهد من أهلها، سواء على المستوى النظري أو التطبيق.
على المستوى النظري
أ- يقول الأخصائي الاقتصادي عادل أحمد حشيش :
” إن طرائق التخطيط وتنظيماته قد تهيأ لها تحسن سريع خلال السنوات الحديثة، وقد ارتفعت نظرية التخطيط وتطبيقاته إلى مستويات جديدة، وقد ساعدت المؤتمرات العلمية، والمناقشات الموسعة على تحقيق المزيد من التحسين في إدارة الاقتصاد في الجمع والربط بين الخطط الطويلة الأجل, والخطط الخماسية، والخطط الجارية. وفي تحليل الخطط الإقليمية والتأكيد على الحاجة إلى تنمية البرامج الدقيقة للمشكلات الرئيسية في المجالات العلمية، والتقنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والدعوة أيضا إلى تركيز الحلول ضمن الإطار الموضوع لخطة كلية واحدة “. (التخطيط الاقتصادي , ص : 29)
ب- كما يقول أخصائي الدراسات المستقبلية : وليد عبد الحي :
” ولكي أعطي صورة متكاملة جمعت عددا وافرا من ” التنبؤات ” الاقتصادية والسياسية ذات الأثر على المستوى الدولي, وعرضتها على شكل نقاط متلاحقة, يمكن تلمس التضارب بينها بفعل انتمائها إلى دراسات مختلفة ؛ لكن أهميتها تبرز في التنبيه على جوانب عديدة، ومع الإقرار بجوانب ضعف في هذه الدراسات، ولا أقول ذلك جريا مع التقاليد، لكنني أثرت جانبا مهما في نطاق العلاقات الدولية، ويكفي أن نلقي نظرة على بعض المؤتمرات الدولية للدراسات المستقبلية لنرى كم نحن متخلفون في هذا الميدان”. (الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية , ص : 7 ).
على مستوى التطبيق
يقول كورباتشيف تحت عنوان : ” ليس إعلانا رنانا بل برنامجا أعد بعناية ” : نضجت تدريجيا صياغة مفاهيم إعادة البناء، فقبل اجتماع نيسان انكبت مجموعة من الشخصيات الحزبية والحكومية على التحليل المتكامل للأوضاع الاقتصادية. وهذا التحليل شكل فيما بعد أساسا لوثائق إعادة البناء. لقد أخذنا كثيرا من توصيات العلماء والاختصاصيين- هذه التوصيات الزاخرة بالطاقة وبأفضل ما أبدع الفكر الاشتراكي- ومن ثم أعددنا المقدمات الفكرية الأساسية للسياسة التي شرعنا في تطبيقها لاحقا …
( ويمضي في نشوة وغرور إلى أن قال ) : واستطعنا في اجتماع نيسان أن نطرح برنامجا معدا بعناية إلى حد ما، وأن نضع استراتيجية للتطور اللاحق للبلاد, وتكتيكا للممارسة، وأصبحنا على يقين من عدم جدوى الإصلاحات التجميلية، ومحاولة الترقيع، وأن المطلوب هو إعادة تصنيع جدية تماما، لقد كان الانتظار مستحيلا تماما ؛ لأن كثيرا من الوقت قد أضعناه “.(بريسترويكا, ص : 23 .)
وبعد فترة زمنية على كتابة هذا النص، وصياغة هذه الخطط، فالكل يدرك ما آلت إليه من هدم لهرم الاتحاد السوفييتي، وتشتيت وحدته، وتفكيك أجزائه.
انقض البنيان، وأحال مُخَطِّطَه على هامش الحياة السياسية ؛ بعدما تربع على قصر الكريملين سنوات قصارا، وما كان ” كورباتشيف ” ليوافق على الخطة برمتها لو أدرك أبعادها ومآلاتها .
هكذا يتضح للعيان بأن خرص الخارصين هو تقدير يحتاج دوما إلى تعديلات، لكي لا تكبر الفجوة بين المتوقع والواقع، بينما المشي على أثر السنن الإلهية امتطاء لعهود ربانية لا تبديل لها ولا تغيير يعتريها، ثم من أوفى بعهده من الله؟