عظم السلف الصالح القرآن ، فحذروا من القول فيه بغير علم ؛ سواء في تفسيره ، أو في تأويل دلالته ؛ ونبع تحذيرهم من خشية التقول على الله والذي يعد من أعظم الذنوب إطلاقا.
وبين التحذير من التقول على القرآن تعظيما له ، وتهميش أحكامه وتعاليمه التي هي سمة العصر تلاق في النتائج ؛ إذ القرآن في كلا المجالين مهمش من الواقع ، ومقصي عن مجال التشريع .
لم يكن الناس من الأمية اللغوية بمكان حتى تعجم عليهم دلالات القرآن بلوغا لمراميها ونيلا لأوطارها .
، ولا غابت النفحات الربانية عن أهلها حتى يدركوا مكنون سرها ولا انعدمت القلوب الحية فتناجي روح القرآن وتناجيها ، ولا وقف واقف بباب مولاه يستلهمه المعاني القرآنية فصد أو انسدت الأبواب دون مآربه ؛ ومن أوفى بعهده من الله ؟ وقد تعهد ببيان آياته وفحوى مضامينها.
تلك إرهاصات بيانية تبحث عن تعليل لمأساة افتراق الناس عن القرآن وانحرافهم إلى البحث في ثنايا السنة عن سبيل يحقق مآرب الحكام ويوجهون الدين وجهتهم بعيدا عن تعاليم القرآن وتوجهاته التي تذم تصرفات الملوك الجاثمين قهرا على رقاب الناس وتناشد وحدة الصف وعدم خشية الظالمين بل وتربط تمام نعم الله على من لم يخش ظالما أيا كان توجهه ، ولهذا حث القرآن الناس على الاستمساك بكتاب الله والاعتصام بحبله المتين.
وأبت سنن الله إلا صرق المتكبربن عن آياته ،فأنى لهم أن يدركوا فقه أحكامه وأنى لهم إدراك مغزى آياته وقد استبدوا بالسلطة واسترهبو الخلائق وفشا الاستبداد وأطلقوا العنان للمفسدين في الأرض وما الحجاج وقصصه إلا نموذج لحقبة زمنية تلت زمن الخلافة الراشدة ، بعدما انقلبت الخلافة الراشدة ملكا عاضا ، وسموها زورا ونفاقا خلافة أموية وعباسية …
ولم تجر الأمور إلا على ما اقتضته سنن الله سواء منها السنن الكونية أو القرآنية في تناغم وتكامل ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا وهكذا يقر التأريخ بأن كتب تاريخ التشريع تتحدث عن أمراء تحدثوا لمالك رحمه الله من أجل وضع كتاب فقه يحملون الناس عليه فمن ذلك ما جاء به الثعاليبي في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي أن مالكا قال : لقيني أبو جعفر المنصور ـ يعني في الحج ـ فقال لي : ” إنه لم يبق عالم غيري وغيرك أما أنا فقد انشغلت في السياسة ، فأما أنت فضع للناس كتابا في السنة والفقه تجنب فيه رخص ابن عباس وتشديدات ابن عمر وشواذ ابن مسعود ووطئه توطيئا “، فقال مالك فعلمني كيفية التأليف ـ يعني دله على طريق الاعتدال التي هي أقوم طريق في التأليف والفتوى.
لم يلتفت العلماء لدهاء الحكام ولا لخطورة الانحراف الذي ستعرفه الأمة على يد حكام الجور والذي كمن في افتراق الكتاب والسلطان. والغريب أن الفقهاء وعنايتهم قد انصبت إلى الحديث النبوي لم يلتفتوا حتى لوصاية الرسول الكريم عليه وعلى آله الصلاة وأزكى التسليم
“خُذوا العطاءَ ما دام عطاءً ، فإذا صار رِشوةً على الدِّينِ فلا تأخذوه ، ولستم بتاركيه يمنعْكم الفقرَ والحاجةَ
، ألا إنَّ رحَى الإسلامِ دائرةٌ فدُوروا مع الكتابِ حيث دار ، ألا إنَّ الكتابَ والسُّلطانَ سيفترِقان فلا تُفارقوا الكتابَ ، ألا إنَّه سيكونُ عليكم أمراءُ يقضون لأنفسِهم ما لا يقضون لكم ، إن عصيتموهم قتلوكم ، وإن أطعتموهم أضلُّوكم ، قالوا : يا رسولَ اللهِ ! كيف نصنعُ ؟ قال : كما صنع أصحابُ عيسَى بنِ مريمَ عليه السَّلامُ ، نُشِروا بالمناشيرِ ، وحُمِلوا على الخشَبِ ، موتٌ في طاعةِ اللهِ خيرٌ من حياةٍ في معصيةِ الله
الراوي: معاذ بن جبل المحدث: أبو نعيم – المصدر: حلية الأولياء – الصفحة أو الرقم: 5/188
خلاصة حكم المحدث: غريب من حديث معاذ
وهكذا خرج كتاب الموطأ للناس فاستحسنوه وتوزع في الآفاق ثم أن مالكا كان تلميذا للإمام جعفر الصادق ، ومن ثم سعى الشيعة لجمع علوم شيخهم فكان للموطأ مكانة لديهم .
وجاء تلميذ مالك الإمام الشافعي ونسج كتابه الرسالة في الأصول وبدأت العلوم تأخذ منهجها العلمي في التفريع والتوسع وعاصر الشافعي الإمام أحمد وكان له شأن وحظوة لدى بعض الملوك فقربوه ومن ثم كتب البخاري صحيحه ومن جملة من عرض عليهم كتابه الإمام أحمد الذي استحسنه ورفعه على كتاب الموطأ الذي كان بعتبر أصح كتاب بعد كتاب الله ، وهكذا بدأ التحزب لغير القرآن والتنافس في صحة الأحاديث، إلا ما كان من مذهب الحنفية الذي هو أقلهم عناية بالحديث النبوي.
وجاء من الفقهاء من يرتضي ذلك الانقسام الحزبي وبعلل بأن الخلاف بين المذاهب انصب على الفروع دون الأصول ولا زالت الأجيال المرغمة على أمرها تتناقل هذه الأقاويل دون تمحيص علمي. والأدهى والأمر هو ما أجده من الثوابت لدى علماء المغرب وهم يستميتون تشبثا به هو استكمال المنهج الحديثي بعقائد الأشعري وتصوف الجنيد ، وليت أحدهم يستفيق بـأن التشريع الرباني جاء كاملا لا يطلب مزيد من مستزيد فكيف يقبلون دينا مرقعا بانحرافات سلوك الجنيد، أو بترهات الأشعري عما جاء به القرآن الكريم؟
وقد لا يدرك المرء أغوار هذا الانحراف الحزبي إلا من ذاق ويلات التحزب لغير القرآن أو من وقف على الإرشادات الربانية. ورب نظرة فاحصة تتركك تضع اليد على انحراف منهجي بحيث اعتمد الفقهاء آيات الأحكام ـ والتي لم تتجاوز حسب زعمهم خمسمائة آية ـ دون باقي البقية الباقية من نصوص التشريع القرآنية والتي فاقت ستة آلاف آية. هنا أتساءل هل حقا هو انحراف تشريعي خطير للغاية أم أن الأمر لا يعدو كونه خلافا في القروع ؟ ألم تتعرض عقيدة الأشعري بأن أفعال الله لا تعلل ؟ هل هذا موضوع يمس الجانب العقائدي أم هي مجرد خلاقات في الفروع ؟
أمرنا أن لا نحكم على من اتبع هذه الطوائف الحزبية الضالة بشوذوذها ، إنما أمرهم إلى الله الذي توعد من يؤمن ببعض الكتاب دون البعض بحياة الخزي في الحياة الدنيا وبالعذاب الشديد في الآخرة. وقانا الله عقابه وغضبه وآجارنا ممن انصرفوا عن القرآن علما وعملا.
فهل يستطيع أحد ممن انتسبوا للمجالس العلمية عموما والمجالس العلمية المغربية بكل مستوياتها خصوصا الرد على الموضوع وهذه كتب الفقه بكل مدارسها لا تمت للقرآن بصلة ولا تنسب إليه إلا فيما سموها آيات الأحكام.
وكل من تسمى باسم غير ما ارتضاه الله لنا وسمانا المسلمين على وفق ما ارتضاه لنا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، فأمرهم إلى الله ؛ فهل نجد منا إلا مدع للانتساب للإسلام دون ضوابط يقينية ؟ { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الأنعام 159
مقال يضع الاصبع على بداية الانحراف في هذه الامة. ويا ليت قومي يستوعبون وبكتاب ربهم يستمسكون. موفق ان شائ الله استاذنا الغالي .