ضمن مشروع الفقه المنهاجي الذي يدعونا لقراءة نقدية بناءة تتعقب غياب الوحدة الموضوعية والنظرة الشاملة والمتكاملة لدى فقهائنا نقف هنا وقفات مع ضابط فهم النـص وفق الضوابط الأصولية فهما يتناغم مع مقتضيات السنن الإلهية لتبقى هذه الأخيرة المقاس والفيصل لتسطير منهجية علمية فقه الفتوى في كل المجالات، واخص منها المجال السياسي، حيث تتشتت الهمم وتتعاند الإرادات وتتخاصم التوجهات والنيات ؛ لنرسم السكة لقاطرة منهجية علمية تسعى لتوحيد الصف ولم الشمل بتوضيح الرؤية وإنارة السبيل. ودخول المجال السياسي ولو بنور السنن الإلهية يقتضي الحذر من إثارة زعانف الجحود لكون اليقين الذي تمثله السنن الإلهية يسري عليه جحود الجاحدين، والمجال ذو حساسية كبرى تجذر الخلاف حولها أيما تجذر، حتى لبس كل تكتل سياسي من الناس لباسا سياسيا يميزه عن غيره كأن لا حبل رابط بين هذا التيار وذاك رغم ما يجمعهم من انتماء للإسلام مع أن الكل جاد في سعيه خدمة لصالح الإسلام وإعلاء لكلمات الله التامات. مما يفتح شهية مشته لمناقشة : كيف تم تأثير السياسة في الفقه عوض أن يؤثر الفقه في السياسية ؟.
إننا بما تمليه النظرة الثاقبة من عوينات الفقه المنهاجي، وبالاستعانة بالسنن الإلهية ضوابط ومقاييس لصواب الرأي وسداده، أو لانحراف القول وضلاله ، نقتحم كل ما صعب وندلل العقبات يسرا في سبيل الحق بمنهجية علمية واضحة المعالم بينّة التعاليم.
ومشروعنا يسطر سبيله وسط كنز فقهي كبير توزعته المذهبية والتعصب لآراء الرجال، وتشابهت أبوابه في كل مذهب، واحتضنت منطلقاته آيات الأحكام التي لا تتعدى في نظر أصحابها خمسمائة آية، وقد تلتقي اجتهادات بعض مذاهبه وقد تختلف، كما أنها لم تشمل كثيرا من الجوانب الفقهية وبخاصة ما يمس جوانب نظام الدولة، وجوانب العقيدة القرآنية الصافية، وسبل التربية الربانية، وشعر فقهاؤنا بهذا النقص منذ القدم استكملوه بما لدى المتكلمين في العقيدة كما نص بعضهم على اتباع سبيل الجنيد طريقة، وهذا ترقيع واستكمال خارج الضوابط الأصولية للفقه.
وبهذه الروح الوثابة للفقه المنهاجي يسعى إلى إعطاء نفس جديد لمنهجية فهم النص أو ضرورة السنن الإلهية لاستجلاء الغموض في أقوال السلف الصالح أو الآيات القرآنية ؛
عرض إشكال دوافع الكتابة
1- إن من يرفع شعار الإسلام هو الحل لم يطل مجرد الإطلالة على حالة الأمة وما هي عليه من شتات فقهي، وتناقضات علمية متباينة قد تنسف الأمل في وجهه، وصحيح بأن الرجوع إلى تحكيم شرع الله به يرفع الله عنا حياة الخزي التي هي سبب كل المصائب و الويلات التي نعيشها، لكن ما هو مشروعنا الفقهي لذلك البرنامج الضخم (في الاقتصاد والسياسة والتعليم والمجتمع المدني) ؟.
2-صحيح، بأن الله – جل شأنه- كتب حياة الذلة والخزي على من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وهذا حال الأمة جمعاء ، فكيف نريد لها حياة العزة والرفعة والسؤدد وقد أنغض الكل رؤوسهم، و أداروا جنوبهم عن كتاب ربهم، وأعرضوا عن سبب عزتهم ورفعتهم وصاروا أذنابا لكل ناعق.؟ فهانوا على الله وهانوا على الناس !!!.
3- ألا يكفينا تقريرهم الفعلي بأن الهلال يولد طيلة ثلاثة أيام في زمن أضحى السفر فيه إلى القمر من الرغبات الملحة للطبقة المستكبرة من ذوي الأموال !!! هل عرفت البشرية السبيل لبلوغ القمر ولم يعلم المسلمون منهم بعد متى يولد الهلال، أم أن خير أمة أخرجت للناس أضحت أذلهم و أخزاهم وأجهلهم؟ ما هذا ؟
4-ولئن علمنا فقهاؤنا -رحم الله الجميع- كيفية التمسك بالحق فضلا عن حفظ الأدب مع المخالف، وبخاصة إن كان من أهل العلم، فكيف يقبل مناقشة أقوال الصحب الكرام من اتخذ أقوالهم دليلا شرعيا ؟ أم كيف لا نناقش أقوال كبار الصحب وبخاصة الخلفاء الراشدين، والله جل شأنه يأمرنا بمدحه لمن إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ؟ فكيف بغيره من الأقوال ؟
5- فلا عجب بأن من يأتي بمشروع يطهر الشريعة الغراء مما يشوبها من أقوال تتناقض، وتتضارب، وأحيانا تتآزر وتتضامن خلاف الصواب، ليصطدم لا محالة مع أفكار تلقاها الناس بالقبول لقرون طويلة، ألقت عليها محبة قائليها سرادقا ظلت به في منأى عن لمس اللامسين، وتحقيق المحققين، وهي في حقيقة أمرها بحاجة إلى تحرير علمي.
6- وهل بحثنا عما ينسب لدين الله من قبل فقهاء مقتدرين من أمثال سعيد رمضان البوطي رحمه الله وما جاء في كتابه ” الجهاد “، ثم فريد الأنصاري رحمه الله الذي أهلته دراسته في المصطلحات الأصولية ليس ليبرز في مجال الدراسات الإسلامية وحسب، بل ليكون منارة من منارات الأدب الإسلامي المعاصر؟ ولئن تقلد رسالة الأديب فضلا عن رسالة الفتوى فهو يتساءل عن موقع المسألة السياسية من مشروع التجديد الإسلامي في كتابه ” البيان الدعوي “.!!!
والاقتصار على ذكر هذين الرمزين لا يفهم منه الحصر، بل ينبئ عن خطورة الأمر والوحل الذي يتخبط فيه العلماء العاملون، فضلا عن تراشق غيرهم بفتاوى متضاربة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال في المجالات السياسية.
7- يقول الأستاذ عبد السلام ياسين : “استفحل الواقع، و تفاقمت مشاكله، وأمعن في الشرود عن الدين، وتجاوز كل ما ورثناه من فقه حتى أصبح مناط الأحكام فيه لا يكاد يبين. من أين نمسك الواقع لندخله في حوزة الشرع، كيف نراوده، كيف نرغمه، كيف نتدرج إلى تطويعه؟”.1
ونستخلص بأن الأمر يتجلى في كونه : أزمة منهاج.
سبيل حل الإشكال :
تأملت النظر في الأمر واتضح بأن كلا اعتمد النصوص الشرعية، وجاءت النتائج عكس الصواب متضاربة لغياب ضابط النصوص وهي الحكمة الربانية أو السنن الإلهية القرآنية منها والكونية : إذ ما كان الله ليربط الكلام عن الكتاب في عشر آيات من كتابه العزيز مردفا له الحكمة، إلا لحث الهمم على القيد والضابط لفهم النص الشرعي، وإليك سرد الآيات التي ربطت الكتاب بالحكمة :
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (البقرة:129) وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[ (البقرة:151)
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ (البقرة:231)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ[ (آل عمران:48)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ[ (آل عمران:164)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً[ (النساء:54)
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[ (النساء:113)
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ[ (المائدة:110)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ[ (الجمعة:2)
وَٱذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (الحزاب 34)
وباعتماد السنن الإلهية ضوابط ومقاييس، بروح الفقه المنهاجي – ذي العين الناقدة بالفكر الثاقب-، ووفق قوانين المنهجية العلمية : كان الفقه المنهاجي.
وأكتفي بالإشارة إلى عدم الوقوف عند عتبة عالم أيا كانت مكانته ؛
تهميشا لمواضيع حساسة ودرءا لنبش أقوال السلف الصالح ؛ نظرا لما نكن لسلف الأمة من محبة وتعظيم بما بذلوه من جهد واجتهاد نصرة لهذا الدين، وفق نظرة عصرهم وخدمة لصالح الإسلام والمسلمين-، لكن الفقه المنهاجي يتناول أقوالهم بما يتطلبه البحث العلمي من تحقيق وتحرير علمي ؛ كي لا تضحي أقوالهم أفكارا معلبة تهضم جاهزة، قد تكون سببا لمتاعب فقهية و تناقضات نحن في غنى عنها
ولغني عن القول بأن اندفاع الناس في خدمة الإسلام كان الاجتهاد منطلقا فيه من مقتضيات مقاصد الشريعة وما تتطلبه المصالح المرسلة، كما كان الشأن في زمن الخلافة الراشدة، أو انطلاقا من نصوص الكتاب والسنة على ما جاء به الإمام الشافعي رحمه الله، وحددت فئة ثالثة فهم النصوص بما أثر عن السلف الصالح، ولئن سعى كل سعيه في هذا السبيل أو ذاك فقد جاء المقال بفقه جديد للنصوص الشرعية يتخذ من سنن الله القرآنية والكونية مطيته لبلوغ مبلغه، فضلا عن الرؤية الناقدة بالفكر الثاقب والبناء.