ما كان الجليل ليقص علينا خبر الخضر عليه السلام من أجل التسلي, أو التعلق بالعلوم الوهبية اللدنية ؛ وبخاصة قصة الخضر عليه السلام ارتبطت بالصوفية حتى وكأنها مجال اختصاصهم, لا يشاركهم فيها مشارك, أو يزاحمهم فيها مزاحم.
إنما جاءت القصة لتحفز فينا الرغبات الدفينة للتطلع للمستقبل, والاستعداد لذلك, وخوض غمار مجاله على بصيرة وعلم.
لا نكران لفضل الله على عباده، وإمدادهم بما منت يداه الكريمتان من فتوحات وفضل، لكن الربانيين ليسوا أدعياء لما لا يملكون، وإن ملكوا شيئا قاموا به لله، وتركوا الناس وشأنهم.
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون}َ[ النمل :88 ]
وما ينبغي نكرانه هو حصر فهم القصة وأهدافها القريبة والبعيدة في كونها عِلْمًا لدُنِّيًا، كأن فضل الله حجّر على سيدنا الخضر عليه السلام، والله سبحانه يقول :
{فوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْما}[الكهف : 65
فحاصل الأمر أن الخضر عليه السلام ساق الله إليه رحمة وعلما. وكان ينبغي العناية كل العناية بما جاء به الخضر من عند الله، طريا نديا ؛ ليحفظنا الله به من كل مكروه يمكن توقعه.
فالخضر عليه السلام ما خرق السفينة، إلا لعلمه بالملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا ؛ فكان من الاحتياطات الواجبة آنئذ خرقها لتحجب عن عيون الغاصبين. وما كان قتله للصبي إلا خشية أن يرهق أبويه الصالحين طغيانا وكفرا.
وما كان بناؤه الجدار إلا لكون كنز اليتيمين تحته, وقد تصدع البناء والصبية لا زالوا صغارا، وقد توقِع ضياع مالهم ؛ وبخاصة في مجتمع خيم عليه البخل وحب المال ؛ فساهم ببناء الجدار.
ولنعد النظر فيما فعله الخضر عليه السلام : فقد قام بما من شأنه الاحتراز لسفينة مساكين من الضياع، والاحتراز للصالحيْن من إرهاق ابنهما لهما طغيانا وكفرا، والاحتراز لمال يتيمين.
إن الشريعة أوجبت العناية باليتيم و المسكين, وأوجبت الاحتراز ضد كل ما من شأنه أن يجرح عواطفهم, أو يشعرهم بالدون.
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [ الماعون1- 3
والدراسات الاحترازية الوقائية تنبني على الإمكان الاستقبالي. ويعرفه المناطقة كالتـالي :
” إن الإمكان الاستقبالي هو في الحقيقة بمعنى الاحتمال, وكمبين لحالة النفس واطلاعها على الخارج، فليس وصفاً للماهية الذهنية، وليس وصفا للماهية الخارجية، بل هو يبين حالة النفس بالنسبة إلى الخارج نظير الإمكان في الجملة المعروفة للشيخ الرئيس حيث قال : ” كل ما قرع سمعك من الغرائب ؛ فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قاطع البرهان “.
والمقصود من هذا الإمكان هو الاحتمال, لا الإمكان الذاتي وغيره، أي ما ليس لك برهان ودليل قطعي على نفيه ؛ فخذه كأمرٍ محتمل, فلا تنفه بشكل قطعي، ولا تأخذ به.
والإمكان الاستقبالي ليس سوى احتمال وقوع الحادثة في المستقبل، وهذا لمن ليس له علم واضح بوقوع أو عدم وقوع حوادث المستقبل “. إيضاح الحكمة في شرح بداية الحكمة لعلي كلبيكاني. ترجمة محمد شقير، ص : 357