أفعال اللغة والخطاب الأدبي
خليفة بولفعة -جامعة الأغواط
يطلق الباحثون على هذه الظاهرة اللغوية ،تداولية أفعال الكلام ويسميها بعض الباحثين الفرنسيين أفعال اللغة ،وهي نظرية انطلقت من فكرة جوهرية ، أسس لها “أوستن”John Langshaw Austin وتلميذه “سارل” Searle John، تتمثل في أن وظيفة اللغة الأساس لا تكمن وصف العالم أو التعبير عن الأفكار أو التأمل ونقل المعلومات-أي التوجه الوصفي الذي ندد به “أوستن” وأسماه الوهم الوصفي- بقدر ما هي مؤسسة تعمل على تحويل الأقوال إلى أفعال ضمن سياقات خاصة. ويفهم من هذا أن هناك أقوالا تتم في إطار اجتماعي ومؤسساتي تصبح أفعالا منجزة بمجرد النطق بها، مثل قول الرئيس:” أعلن حل البرلمان أو الدستور”،أو قول القاضي :”فتحت الجلسة”.
ويقسم الباحثون هذه الأفعال اللغوية إلى أفعال مباشرة مثل أفعال العقود (زوج ،طلق ،باع ، اشترى ، بايع وعاهد …) و وأفعال غير مباشرة ،مثل قولهم في المثال المشهور “هل بإمكانك أن تناولني الملح ؟ “، فظاهر هذا الكلام استفهام ولكن دلالته تشير إلى طلب بتقديم الملح (1) .وعليه فإن المنطلق الأساس لهذا التوجه ، يعني القطيعة مع نظرية “تشومسكي” التي ترى بأولوية النحو ، ونظرية”سوسير” التي ترى بأولوية اللسان( [1]).وبذلك فاللغة حسب ” أوستن” وفلاسفة اللغة،ليست مجرد وصف للعالم ،بل هي فعل يؤثر في الواقع ويعدل في السلوك ويثير ردود الأفعال.(2)
وتعتبر هذه الظاهرة اللغوية جوهر إنتاج الأعمال الأدبية، خاصة في الرواية والشعر. فالسارد عندما يقوم بعملية الحكي لا يقصد تقديم سلسلة من الأحداث إلى المتلقي ،بقدر ما يكون هدفه إحداث أثر ما في متلقيه ،وبذلك فإن عملية السرد مثلها مثل العمليات الخطابية الأخرى تهدف إلى إيصال فكرة ما إلى المتلقي أو تضليله عنها(3).
وعلى هذا الأساس ،يبدو أن هذه الأفعال تعمل على تحديد الرؤية السردية “التي ترتبط ارتباطا وثيقا بأحد أهم مكونات الخطاب السردي المتمثل في الراوي وعلاقته بالعمل السردي بوجه عام ،وذلك لاعتبار أن الحكي يستقطب دائما عنصرين أساسيين بدونهما لا يمكننا أن نتحدث عنه.هذان العنصران هما :القائم بالحكي ومتلقيه ، وبمعنى آخر الراوي والمروي له”(4) .وهذه الرؤية لا تتم دون منظومة سردية تؤطرها أفعال لغوية تتم من خلال عملية تفاعلية بين عنصرين اثنين هما المرسل والمتلقي من خلال عملية تفاعلية. ومن مظاهر ذلك ما نجده في أفعال منظومة السرد عند الروائية أحلام مستغامي:
(( … اليوم بعد ربع قرن أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء .. وكأنك تعتذر عن ماضيك ..)(5) وكذلك في حديثها عن “الذراع المبتورة” لـ(خالد بن طوبال) الذي فقد ذراعه أثناء حرب التحرير الجزائرية …كانت تلك بطاقة تعريفي وأوراقي الثبوتية (6)( … وقد تزعج البعض ، تفسد على البعض راحتهم ، تفقدهم شهيتهم (7) ومع ذلك فهو يدرك بأن حياته ما زالت جرحا ينزف ، وتتضاعف مأساته في المنفى حين يدرك أن هؤلاء لا يعترفون بجرحه وإنما يعترفون بفنه فقط(8)،لا تقصد الروائية هنا تقديم صورة لبطل روايتها بقدر ما تحاول التأثير في المتلقي وإقناعه بفكرها وإيديولوجيتها عن طريق توظيف جانب موح من أيقونة الجسد “الذراع المبتورة”، التي هي في جانب منها صورة إنسانية مزعجة ومثيرة للشفقة معا ،ومن جهة أخرى رمز لهوية وطنية ذات بعد سياسي وتاريخي ، أي وسام معلق على هذا الجسد ،كما إنها شهادة على ظلم الإنسان وقهره (الاستعمار) وتنكره (بعد الاستقلال): اليوم بعد ربع قرن أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء…. وكأنك تعتذر عن ماضيك ….
وحين تتحدث عنه في منفاه (فرنسا):تصفه بالرجل الذي يحمل ذاكرته على جسده ( وكنت تحمل ذاكرتك على جسدك ( (8) تقرأ على بعض الكراسي أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل .. محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، جراحهم ربما كانت على يدك ، وجراحك أنت غير معترف بها(9).
في حين تقدم صورة أخرى مقابلة تمثل أبشع صور الخيانة والانتهازية والمحسوبية: ( … وقد تزعج البعض، تفسد على البعض راحتهم، تفقدهم شهيتهم).، وكذا في حديثها عن حسان الذي يمثل شريحة أخرى من المجتمع الجزائري:( في العاصمة ستكون لك ( خيوط) ستوصلك الطرق القصيرة هناك .. ولن توصلك الجسور هنا!)(10).ومنه نفهم أن الروائية في موقف رفض وتنديد لوضع ما ، فلم تكتفي بوصفه وعرضه على المتلقي بطريقة سافرة ،بل وظفت إستراتيجية السرد المكونة من أفعال لغوية ضمنية، توحي بصورة مباشرة بأفكار وإيديولوجية تعززها قوة بلاغية وحجاجية تعمل كلها على إثارة المتلقي والتأثير فيه.
لقد أصبحت هذه الذراع لعنة تطارده في كل مكان ( كنت تتأملين ذراعي الناقصة وأتأمل سوار يدك ، كان كلانا يحمل ذاكرته فوقه )
. ويذكر بكل مرارة :
( أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك ذراعه وفي المدن المعلقة قلبه(11)
وقريب من هذا ما نجده عند الروائي إبراهيم الكوني:”..ولكن القدر فوت الفرصة .جاءت الأنباء بانكسار المقاومة في الحمادة أيضا و…باستشهاد الوالد.قيل انه قاوم ببسالة.بل إن أهل الصحراء نظموا القصائد بعدها تمجيدا لبطولته.ربما لأنهم لم يتوقعوا من رجل مزواج متيم بالسبايا الزنجيات أن يسطر المآثر في مقاومة الطليان.أحد الرعاة أخبره أن الهجوم المباغت لم يفقده السيطرة على نفسه،فطاف على القبيلة ، وجمع المقاتلين،وحارب حتى حوصر معسكره.طال الحصار فاختلف مع بعض المشايخ الذين هدهم العطش ورأوا ضرورة التسليم.انفصل عنهم مع عدد من المخلصين.اعتصم بجبل الحساونة حتى مات .مات بالعطش ،فاستسلمت القبيلة كغيرها من القبائل. تولى ابن عمته المشيخة بعد انتظار طويل .ولكنه لم يسعد بها،فقد تشتت القبيلة وهاجرت إلى الجهات الأربع.لجأت بعض العشائر إلى غدامس ،ولجأت قبائل أخرى إلى “تامنغست” وعزمت بعض القبائل أن تنزح إلى السودان.ولم يفد سعي الشيخ الجديد لتجميعها.فشل في إقناع الشيوخ بالتذرع بالصبر والانتظار حتى يمر البلاء.وهو لا يزال يتنقل في الصحاري ساعيا لتجميع الشتات كي يمارس مهام المشيخة.آه.لو تشتت كل القبائل في الصحراء الواسعة لاندثرت الخلافات حول المشيخة ولما تقاتل الأشقاء للفوز بالزعامات”(12)
لا يريد الروائي هنا تقديم الأحداث ووصفها بطبيعة الحال ،ولكنه يوظف استراتيجيات مختلفة للتأثير في المتلقي ،سواء عن طريق عملية السرد المثيرة ،أو توظيف بعض الوحدات المعجمية الموحية مثل ” جاءت الأنباء بالانكسار- طال الحصار فاختلف مع بعض المشايخ- القبيلة – استسلمت القبيلة- تشتت القبيلة وهاجرت إلى الجهات الأربع- ساعيا لتجميع الشتات كي يمارس المشيخة- ثم يحتم ذلك بقوله: آه.لو تشتت كل القبائل في الصحراء الواسعة لاندثرت الخلافات حول المشيخة ولما تقاتل الأشقاء للفوز بالزعامات. إن الراوي هنا لا يصف ولا يسرد بقدر ما يندد بوضع سياسي متعفن،تسوده الخيانة والقبلية والبداوة والخضوع والاستسلام ،بالرغم من المظاهر الخادعة والشعارات الزائفة التي يروج لها .باختصار شديد ، يوظف الروائي ريشته لرسم صورة متعددة الأبعاد لأزمة العالم العربي.وتظهر هنا قوة عملية الفعل اللغوي المتمثلة في السرد الذي يعتبر وسيلة لغوية يوظفها الروائي للتأثير في المتلقي .
كما تعمل الصيغ والمحددات النحوية والبلاغية على تقوية المعنى وإعطائه بعدا آخر، فهي تعتبر أيضا إحدى الموجهات الخطابية التي تعبر عن ذاتية المتلفظ وتواجده في الزمان والمكان،وبذلك فإن مثل هذا النوع من التوظيف ، يعمل على إبراز نوعية الحدث و درجة حدوثه وسلميته ؛ إما بشكل احتمالي أو تأكيدي.وهذا النوع يعمل على توجيه الخطاب وتقويته لإحداث أكبر أثر ممكن في المتلقي .مثل قول أبي الطيب المتنبي موظفا الفعل اللغوي المتمثل في النهي بصيغته الصريحة:
– فلا تغرُرْكَ ألســنةُ مَـــوالٍ تُقلّبُهَـنَّ أفئـدةٌ أعـــادي( [2])
– لا تَعْذُلِ المُشتاقَ في أشـــواقه حتى يكون َ حشاكَ في أحشـائهِ( [3])
يستعمل النهي بصيغته الصريحة(الفعل اللغوي المباشر) لحرصه على تبليغ ما يريده من تحذير أو تنبيه للمرسل إليه من هؤلاء الأصدقاء ، نفس الشيء في المثالين الآخرين فلا يحتاج المرسل إليه هنا إلى أي تأويل،وبذلك تحقق التحذير بصورة شمولية إلى المخاطب العياني والافتراضي على حد سواء . أما في الأمثلة التالية فنجده يغير من إستراتيجيته الخطابية مستعملا نفس الفعل اللغوي، إلا انه يضيف نون التوكيد إلى فعل المضارع المسبوق بلا الناهية لسبب إستراتيجي وتداولي يتطلبه السياق:
1- لا تَطْلُبنَّ كريماً بعـــد رؤيته
إنّ الكرامَ بأسخَاهُمْ يداً خُتِمـوا ( [4])
2- إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّةٍ فلا تَسْتَــعِدَنّ الحُسَـام اليَمَانِيَا ( [5])
3- ولا تستطيلنّ الرّمــَاحَ لغارةٍ ولا تستجيدَنّ العتــاقَ المَذَاكِيَا ( [6])
وبذلك نجد أن في هذا النوع من التوظيف يتطلب تدرجا وسلمية في الفعل ، فنون التوكيد هنا لها دور تداولي يبرز أن درجة التوكيد أعلى منها في الصيغة السابقة ،وفي هذا المنحى تأكيد ناتج عن معرفة المرسل للمرسل إليه وإدراكه الجيد للموقف التواصلي وبعناصر السياق المهيكلة للخطاب . ويبرز من هذا الاستخدام أن الفعل اللغوي المتمثل في النهي درجات تحددها ظروف المرسل إليه وحالته ومنزلته ،وقربه أو بعده من المرسل ،كما يرجع ذلك إلى طبيعة الموضوع أو الأمر المنهي عنه .
وقد يرد هذا الفعل الكلامي بألفاظ معجمية غير الأداة المختصة، مثل الألفاظ الدالة على الكف أو الترك، مثل قوله سبحانه وتعالى” وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)”(الأعراف) . فقد وردت كلمة “ذروا ” الدالة على الأمر في صيغته المعجمية والنحوية،إلا أنها في بنيتها العميقة تدل على النهي ،أي عدم إتباع الملحدين في آيات الله وأسمائه ،ومثل ذلك كثير في الشعر العربي مثل قول أبي الطيب المتنبي :
– وَدَعْ كُلّ صَوتٍ غَيرَ صَوتِي فإنّني أنا الطّائرُ المَحكيّ والآخرُ الصّدَى
وغني عن البيان أن هذا الملفوظ قد ورد بصيغة الأمر غير أن بنيته العميقة تدل على النهي سواء من الناحية المعجمية حيث نجد كلمة ” دع” تعني الترك ،أي” اترك ” والدعوة إلى الترك تعني النهي عن إتيان الفعل.أما من ناحية سياق الخطاب، فإن المرسل يطلب من سيف الدولة أن يدع ما عداه من الشعراء، لأنهم -حسب رأيه- ليسوا إلا صدى لشعره .
وعلى هذا الأساس تكون هذه النظرية في أساسها رفض للتصور القديم الذي يرى في اللغة ، مجرد قواعد مجردة يستخدمها الفرد للتعبير عن حاجته التواصلية،حسب “دوسوسير” الذي يرى أن دراسة اللغة تتضمن جانبين :جانب أساس، هدفه دراسة اللسان باعتباره ممارسة اجتماعية في جوهرها ومستقلة عن الفرد؛ وهي دراسة نفسية في أساسها ؛وجانب ثانوي ، هدفه الجانب الفردي في اللغة،أي الكلام الذي يشمل الجانب الصوتي: فهو نفسي-مادي”(14) وهنا يبرز الاختلاف الواضح بين التوجهين، أي الوصفي والتداولي .
ويمكن تلخيص هذه النظرية في سلسلة من الأفعال :
الفعل التلفظي : يقوم فيه المرسل بتوجيه مرسلة خطابية ما موجهة إلى مرسل إليه ضمن سياق ما.
الفعل الصوتي: يقوم المرسل بنطق مجموعة من الألفاظ مستثمرا في ذلك كفاءته اللغوية عبر إستراتجيات متعددة في سياق معين.
الفعل الإنجازي :يقوم المرسل بفعل كلامي في سياق ما .
الفعل التأثيري: يؤثر المرسل على المرسل إليه بطريقة ما.
وتوجد بين هذه الأفعال علاقة جوهرية، تتمثل في التلفظ من طرف المرسل بفعل كلامي، ينتج عنه من طرف المرسل إليه ، نتيجة تأثره بهذا الفعل الكلامي(15) .
وبما أن الشكل اللغوي ليس كافيا في أكثر الأحوال لإبراز الدلالة الفعلية لهذه الأفعال، فلا بد من إيجاد بعد أساس فيها يتمثل في قصد المرسل، حيث تتم عملية الاختيار التركيبي والدلالي في الملفوظ بمراعاة السياق المناسب.وهذا ما تم بالفعل على يد “سارل”بعد” أوستن” فلم يعد المعنى موجودا في الخطاب الحرفي أو المباشر فحسب، بعد أن أكد فلاسفة اللغة بشكل واضح ، أنه يستحيل الاكتفاء بما تقوله الجملة حرفيا، خاصة من خلال ما أكده “جرايس” من اعتبار متضمنات القول جزءا أساسا في العملية التواصلية ، أي عدم الاكتفاء بما هو متواضع عليه( مثلما لاحظنا في الأمثلة السردية السابقة) ، كما أكد هؤلاء على أهمية المبادلات اللغوية و دور العناصر غير اللسانية في إنتاج الخطاب وتأويله ، مثل السياق والموقف التواصلي والمعارف المسبقة للمتخاطبين(16).كما أبرزوا دور الأفعال غير المباشرة في هذه الإستراتجية الخطابية .و زيادة على أن دلالات الخطاب اللغوي تتعدد حسب سياقات التلفظ، فإن دلالة الملفوظ قد تتغير بتغير الظروف والمحددات الزمنية والمكانية والموقف التواصلي.
ومن أهم النظريات التي تذهب في هذا الاتجاه ما جاء به ” جرايس” في قوانين الخطاب ، التي تجعل المتكلم يقول ما يود قوله دون أن يصرح بذلك ، و يصرح في موقف ويلمح في آخر، وخاصة مبدأ المشاركة الذي يشكل العمود الفقري للنشاط الكلامي ، إذ من خلاله يتمكن المتخاطبون من ضمان عدم انقطاع التواصل(17).
والجدير بالذكر هنا، هو أن هذه الظاهرة اللغوية هي ما عرف في التراث العربي بالخبر والإنشاء.فقد ثبت عندهم أن الاختيارات التركيبة والدلالية لا تخضع بالضرورة إلى اعتبارات نحوية ، بل لاعتبارات تداولية ،كما أن الإفادة في الكلام ترجع إلى أحوال وملابسات المتخاطبين. وهذا ما أكده عند عبد القاهر الجرجاني و ابن خلدون : ” ألا ترى أن قولهم (زيد جاءني) مغاير لقولهم (جاءني زيد ) من قبل أن المتقدم منها هو الأهم عند المتكلم،فمن قال: جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه،ومن قال زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء( المسند). ..”(18) .وهناك أفعال لغوية أخرى اكتست اكتست أهمية كبيرة عند البلاغيين والنحويين وعلماء التفسير والأصوليين خاصة ،منها:
الأمر : الذي نظر إليه النحاة القدامى باعتباره صيغة لغوية يوظفها المتكلم ليعبر بها عن مستويات مختلفة من الطلب الدالة على الأمر وغيره ، أي صيغة تستدعي الفعل ،أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على جهة الاستعلاء . وكذلك ذهب البلاغيون إلى وضع قواعد بلاغية تنظر إليه من زاويتين مختلفتين ، زاوية الحقيقة والمجاز، مستعملين في ذلك منهجا تداوليا يقترب وبشكل كبير من الدرس التداولي الحديث، فعملوا على إبراز أهمية البنية الملفوظية وضرورة تماثلها مع المقصدية التي يكون السياق هو الفيصل في تحديدها.كما يأتي الأمر عند الأصوليين صيغة للتكليف تنصب في التشريع على وضع الحكم لأفعال المكلفين بالأمر على أوجه دلالته المختلفة من وجوب وإباحة، وندب أو حظر بالنهي على أوجه دلالته المختلفة من تحريم وكراهة(19) ،كما يعرف بـ”استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء”(20) وقد تعددت دلالة الأمر عند الأصوليين فنجد ابن النجار عد لصيغة (افعل) خمسا وثلاثين معنى(21)
النهي: يعرف ابن فارس النهي بقوله: “هو قولك: لا تفعل(22)” إذ لا صيغة له سوى المضارع مع لا الناهية، ويعرفه صاحب الإيضاح بأنه ” له حرف واحد وهو “لا” الجازمة في قولك “لا تفعل” وهو كالأمر في الاستعلاء. وقد يستعمل في غير طلب الكف أو الترك… (23)
وقد ينهى عن الشيء باستخدام الدلالة المعجمية المتضمنة تحريما للفعل، أو نهيا عنه ومدلول صيغة النهي هو الكف عن الفعل على الفور، وحقيقته التحريم عند الأصوليين، وقد تدل الصيغة باعتماد السياق على معان أخرى غير أصلية(24)
ولكي يتحقق هذا الفعل يجب أن تتوفر شروط وقوعه مثل المرتبة أو المنزلة مثله مثل الأمر(كما أوردنا في الأمثلة السابقة( لا يتم حل البرلمان أو الدستور إلا من طرف شخص تتوفر فيه شروط معينة وهو الرئيس،ونفس الشيء بالنسبة لفتح الجلسة في المحكمة لا تتم إلا من طرف القاضي) وهذا ما يؤكده المبرد “واعلم أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر ،يجري على لفظه كما جرى على لفظ الأمر(25)
و يستعمل النهي لتوجيه المخاطب والغائب وذلك عند استعمال حرف “لا” لأنه “يقع على فعل الشاهد والغائب “(26).
وعلى الجملة ، فإن هذا النمط من التداولية ، يرى أن اللغة ليست وسيلة للإخبار أو الاتصال أو تعبيرا عن الفكر ، بقدر ما هي مؤسسة تعمل على صهر هذه الظاهرة البشرية وإعادة صياغتها بشكل خاص ينتج عنه أفعال تعمل على التأثير وتغيير السلوك.وإن كانت العملية اللسانية في حد ذاتها هي إخبار ونقل للمعلومات فهي أفعال خاضعة لمجموعة من الضوابط تعمل على تغيير موقف المتلقي وتعديل وضعيته من خلال استهداف أفكاره ومعتقداته بسبب ما تتضمنه من قوة إنجازية(27) .
—————-
الهوامش
[1] – J .L .Searle. sens et expression. Traduit par : Joelle Porust ,Edition Minuit, Paris; p.71
2- Martine Bracops, Introduction à la pragmatique, ,p.97
3J.-M Adam, Le texte narratif, Paris, Nathan,1985,p.7
4- سعيد يقطين،تحليل الخطاب الروائي،ط.3،المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت/الدار البيضاء،1997،ص.283 5 أحلام مستغانمي ،ذاكرة الجسد ،ص.72
6 – الرواية ص.53
7 نفسه ،نفس ص
8 – الرواية ،نفس ص
9- الرواية ،ص72/73
10 – الرواية ، ص.389
11 -الرواية ص.100
12 – إبراهيم الكوني ،التبر،رياض الريس للكتب والنشر ،لندن،1990، ص.76.
13-Ferdinand De Saussure ,cours de linguistique générale, édition Talantikit , Bejaia ,2002,p .26
15- عبد الهادي بن ظافر الشهري إستراتجيات الخطاب ،مرجع سابق ،ص.75
16 – Introduction à la pragmatique, op , Cit ,p.98
17-عمر بلخير، تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، ص.101
18 –المقدمة ص.1604
19 – ردة الله بن ضيف الله الطليحي، دلالة السياق ، “سلسلة الرسائل الموصى بطبعها” ،جامعة أم القرى ،المملكة العربية السعودية، 1424 هـ ، ص.156
20- الكولذاني الحنبلي ، التمهيد في أصول الفقه ،ت.د مفيد أبو عميشة وزميله ،جامعة أم القرى ،مكة المكرمة ،1406 هـ ،ج1/124
21 – دلالة السياق ، مرجع سابق ،ص. 157
22- البديعي الصاحبي ، تحقيق احمد صقر ، الناشر ،عيسى البابي الحلبي وشركاه،القاهرة ،1977، ص. 302
23- الخطيب القزويني ،الإيضاح في علوم البلاغة ،ت.د.عبد الحميد هنداوي ،ط 2، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع ، القاهرة، 2004 ،ص.139
24- دلالة السياق ، مرجع سابق ،ص.527-528
25- المبرد ،المقتضب،ت.محمد عبد الخالق عضيمة ،عالم الكتب ،بيروت ،ج 2،ص.135
26- إستراتيجيات الخطاب ،مرجع سابق ،ص. 350
27 – Orecchioni ,Enonciation de la subjectivité dans le langage, p. 185
– لا تَعْذُلِ المُشتاقَ في أشـــواقه حتى يكون َ حشاكَ في أحشـائهِ( [3])
إنّ الكرامَ بأسخَاهُمْ يداً خُتِمـوا ( [4])
2- إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّةٍ فلا تَسْتَــعِدَنّ الحُسَـام اليَمَانِيَا ( [5])
3- ولا تستطيلنّ الرّمــَاحَ لغارةٍ ولا تستجيدَنّ العتــاقَ المَذَاكِيَا ( [6])
الفعل الصوتي: يقوم المرسل بنطق مجموعة من الألفاظ مستثمرا في ذلك كفاءته اللغوية عبر إستراتجيات متعددة في سياق معين.
الفعل الإنجازي :يقوم المرسل بفعل كلامي في سياق ما .
الفعل التأثيري: يؤثر المرسل على المرسل إليه بطريقة ما.
وقد ينهى عن الشيء باستخدام الدلالة المعجمية المتضمنة تحريما للفعل، أو نهيا عنه ومدلول صيغة النهي هو الكف عن الفعل على الفور، وحقيقته التحريم عند الأصوليين، وقد تدل الصيغة باعتماد السياق على معان أخرى غير أصلية(24)
ولكي يتحقق هذا الفعل يجب أن تتوفر شروط وقوعه مثل المرتبة أو المنزلة مثله مثل الأمر(كما أوردنا في الأمثلة السابقة( لا يتم حل البرلمان أو الدستور إلا من طرف شخص تتوفر فيه شروط معينة وهو الرئيس،ونفس الشيء بالنسبة لفتح الجلسة في المحكمة لا تتم إلا من طرف القاضي) وهذا ما يؤكده المبرد “واعلم أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر ،يجري على لفظه كما جرى على لفظ الأمر(25)
و يستعمل النهي لتوجيه المخاطب والغائب وذلك عند استعمال حرف “لا” لأنه “يقع على فعل الشاهد والغائب “(26).
وعلى الجملة ، فإن هذا النمط من التداولية ، يرى أن اللغة ليست وسيلة للإخبار أو الاتصال أو تعبيرا عن الفكر ، بقدر ما هي مؤسسة تعمل على صهر هذه الظاهرة البشرية وإعادة صياغتها بشكل خاص ينتج عنه أفعال تعمل على التأثير وتغيير السلوك.وإن كانت العملية اللسانية في حد ذاتها هي إخبار ونقل للمعلومات فهي أفعال خاضعة لمجموعة من الضوابط تعمل على تغيير موقف المتلقي وتعديل وضعيته من خلال استهداف أفكاره ومعتقداته بسبب ما تتضمنه من قوة إنجازية(27) .
الهوامش
[1] – J .L .Searle. sens et expression. Traduit par : Joelle Porust ,Edition Minuit, Paris; p.71
2- Martine Bracops, Introduction à la pragmatique, ,p.97
3J.-M Adam, Le texte narratif, Paris, Nathan,1985,p.7
4- سعيد يقطين،تحليل الخطاب الروائي،ط.3،المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت/الدار البيضاء،1997،ص.283 5 أحلام مستغانمي ،ذاكرة الجسد ،ص.72
6 – الرواية ص.53
7 نفسه ،نفس ص
8 – الرواية ،نفس ص
9- الرواية ،ص72/73
10 – الرواية ، ص.389
11 -الرواية ص.100
12 – إبراهيم الكوني ،التبر،رياض الريس للكتب والنشر ،لندن،1990، ص.76.
13-Ferdinand De Saussure ,cours de linguistique générale, édition Talantikit , Bejaia ,2002,p .26
15- عبد الهادي بن ظافر الشهري إستراتجيات الخطاب ،مرجع سابق ،ص.75
16 – Introduction à la pragmatique, op , Cit ,p.98
17-عمر بلخير، تحليل الخطاب المسرحي في ضوء النظرية التداولية، ص.101
18 –المقدمة ص.1604
19 – ردة الله بن ضيف الله الطليحي، دلالة السياق ، “سلسلة الرسائل الموصى بطبعها” ،جامعة أم القرى ،المملكة العربية السعودية، 1424 هـ ، ص.156
20- الكولذاني الحنبلي ، التمهيد في أصول الفقه ،ت.د مفيد أبو عميشة وزميله ،جامعة أم القرى ،مكة المكرمة ،1406 هـ ،ج1/124
21 – دلالة السياق ، مرجع سابق ،ص. 157
22- البديعي الصاحبي ، تحقيق احمد صقر ، الناشر ،عيسى البابي الحلبي وشركاه،القاهرة ،1977، ص. 302
23- الخطيب القزويني ،الإيضاح في علوم البلاغة ،ت.د.عبد الحميد هنداوي ،ط 2، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع ، القاهرة، 2004 ،ص.139
24- دلالة السياق ، مرجع سابق ،ص.527-528
25- المبرد ،المقتضب،ت.محمد عبد الخالق عضيمة ،عالم الكتب ،بيروت ،ج 2،ص.135
26- إستراتيجيات الخطاب ،مرجع سابق ،ص. 350
27 – Orecchioni ,Enonciation de la subjectivité dans le langage, p. 185
</B></I>